الحركة، تأثير وهويّة

 رينيه أنطون - 8 أذار 2025


شكرًا على هذه الحلقة، وللدكتور عدنان (طرابلسي) على مقدّمته الرائعة التي تُلقي بمسؤولية كبيرة على الحركيّين والقادة. ولكون الحلقة هي لمناسبة الذكرى 83 لانطلاقة الحركة، أوضح، بدايةً، أنّ منبع مكانة عيد الحركة في ضمائرنا هو منبعٌ كنسيّ بامتياز، بمعنى أنّ كما تذكّرنا الكنيسة في الأعياد بما نحن مدعوون إليه من وجوه قداسة في حياتنا وتأهّل لاستقبال الأحداث الخلاصيّة والاشتراك فيها، يذكّرنا كلّ عيد للحركة بما نحن مدعوّون أن نكون عليه من سعيٍ إلى  نهضةٍ في الربّ ممتدّة إيمانًا وشهادة وخدمة في حياتنا، كما سعى المؤسّسون.

أنطلق من العبارة التي انتهى فيها العرض حول تأسيس الحركة ونتاجها والتي تقول: "يبقى نتاج الحركة الأهمّ تأثير تربيتها، والحياة الشركويه فيها، في الأشخاص"، لأضيء على هذا الجانب، بابعاده الواسعة، التي تغيب عنّا كلّما تحدّثنا عن إنجازات الحركة والتي تحمل في طيّاتها معاني "الهويّة النهضويّة"، التعبير الذي يتردّد كثيرًا  في وسطنا الحركيّ. فأذكر أوّلًا أنّ هذا التأثير العميق للتربية في الحركة وحياة الجماعة فيها في الشخص، والمُغيِّر بشكلٍ جذريّ، هو ركيزة  كلّ ما عُرض أمامنا من انجازات حركيّة ملحوظة في المشهد الكنسيّ العام، ومنها مواضيع الثقافة والنشر والنهوض بوجوه الحياة الكنسية والجسم الاكليريكيّ. هذا التغيير المشهود مبنيّ على  هذه الركيزة الأساس، أمّا التأهّل الاداريّ والتقنيّ والقدرات الشخصيّة فتأتي لاحقًا. هذا إضافةً  إلى نتاجٍ لهذا التأثير، قد لا تكون مشهودةً بشكل عام وإنّما لا تقلّ شأنًا وأهميّة عمّا هو مشهود، ما لم تكن أهمّ.

لذلك حين نتحدّث "بانجازات" حركيّة، على أي صعيدٍ كان، فليس هذا بغاية الفخر والزهو والاشادة بذواتنا، او بغاية الاعلام الدعائي عن  الحركة كهيئة أو جمعيّة أو مؤسّسة، إذ أنّ الحركة ليست بهذه أو تلك، كما أنّنا في يقين أنّ ما فيها من جمالات وانجازات هو من فعلِ الربّ فيها عبر الجماعة وليس من فعلٍ شخصٍ، منًا، أيًًا كان. إن ذكَرنا نتاج الحركة فلكوننا نعرف ونتحسّس حجمَ تأثيرها فينا، وليس تأثيرنا فيها، وإلى أين أنتقلت بنا في علاقتنا مع الربّ، وبعائلاتنا ومجتمعاتنا الصغرى، المحيطة فينا، وكم تذوّقنا فيها من حلاوة الجماعة والشركة والخدمة والطاعة والسعي المُشترك للعيش في كنِف الربّ عبر كنِف الأخوّة.  نتحدّث في نتاج الحركة لأجل أن يكون الحديث دعوةً وسعيًا إلى مدّ هذه الخبرات الالتزاميّة المُعاشة على مدى الكنيسة كلّها.

إنّ باكورة هذه التأثير للحركة في الشخص هو الوعي الايمانيّ الذي غرسته فينا لينقض مفاهيم دينيّة خاطئة ويوضح لنا الصورة الالهيّة وينتقل بها، في ضمائرنا ونفوسنا وقلوبنا، من الهٍ قويّ قاسٍ مُرعب غاضب من خطايانا وضعفاتنا، وهو اله التربية الدينية التقليدية التي كانت تُعطى لنا عن طريق الأهل أو الكنيسة عبر الوعظ، إلى إله محبّ حنون مترفق متلطف يحزن لحزننا ويفرح لفرحنا، وبحيث ارتكازًا على هذه الصورة، هذه المحبّة الالهيّة، تأسّست انطلاقة علاقتنا بالربّ بامتدادتها. فهي ما جعلنا نُدرك أنّ ربًّا أحبّنا أولاً، وأنّنا مدعوّون، بحرّيتنا، إلى قبول هذا المحبّة  ومبادلته إيّاها. وهذا الادراك لم يكن سبيله التلقين والتدريس والمعلومة الدينية واللاهوتية، على أهميّة المعلومة، وإنّما المرافقة والاحتضان ومعايشة مُثل حيّة ومضَت فيها أمامنا بذور هذه المحبّة الالهيّة.

ومِن ادراكنا، هذا، لمكانتنا عند الربّ، ونموّ مكانتة فينا، ولد سعينا إلى أن تتجلّى فينا وجوهُ التزامنا له والحياة به، وولدت فينا مكانةُ ما يخصّه ويعنيه، وعنايتُنا فيه، وأوّله مكانة الكنيسة وعنايتنا بحياتها، بحيث وعينا أنّ مسؤوليتنا عنها، ودورَنا فيها، كعائلة الله، كعائلة كبرى لنا، لا تقلّ عن مسؤوليتنا في عائلاتنا الصغيرة ودورنا فيها.

هذا هو منشأ البُعد الرعائي الذي زرعته الحركة فينا بما فيه اهتمامنا بقضايا المشاركة والمواهبية في الكنيسة. ولذلك حين ندعو الى أن تتجلّى هذه المشاركة في الكنيسة فليس بمنطق حقوق العلمانيين في الكنيسة، منطق الحقوق والواجبات. نحن لا نعتبر أن لدينا حقوقًا في كلّ ما يخصّ الربّ. فالحقوق سبق أن وصلتنا منه بأثمن ما يمكن. نحن ندعو الى هذه المشاركة لأنّ هذه العائلة تعنينا، وبغاية أن تتجلّى بنوّتنا لها وعضويّتنا فيها بأن نكون خدّامًا لحياتها ولما يرسّخ هويّتها المواهبية الشركويّة وكلّ ما يفرح الربّ فيها.

ومن هذا الادراك، ذاته، ومكانة الربّ فينا وعينا في الحركة أنّ لا شيء آخر في الكون لا يخصّ الله، وأوّله الانسان، فكان البُعد الشهاديّ لدينا  حيث دُعي كلّ منّا إلى أن يقتني مقاربة إيمانيّة إنجيليّة لكلّ وجه من وجوه الحياة، أمعيشيًّا كان أم فكريًّا ثقافيًّا أم مجتمعيًّا، ليعيش بموجب هذه المقاربة ويطلّ بموجبها مجسَدًا البُعد الشهادي للايمان بأبعاده الانفتاحيّة على كلّ موضوعٍ وتحدٍّ، وكلّ إنسان.

ولذلك قاربت الحركة قضايا الانسان والعدالة والطائفية بمواقف واضحة، وأصدرت وثائق وأوراق عمل للحركيين، منها وثيقة التزام شؤون الأرض ووثيقة أن نعيش في حضرة الله الدائمة وغيرهما، وبحيث تجمَع هذه المبادئ العامّة الحركيّين في هذا البُعد الشهادي على أن تبقى لكلّ منهم قراءته التقييمية الشخصيّة لسبل اطلالته الشهادية على هذه الشؤون والتعبير عن مواقفه الانجيليّة منها.

هذا الوعي الايمانيّ الشخصيّ المًُدرك للأبعاد الالتزاميّة لوجوه الحياة في المسيح، الشخصيّة والكنسيّة الرعائيّة والشهاديّة هو ما يوسم الحركيّ بالهويّة النهضويّة، فهذه الهويّة ليست بشيءٍ بعيد خارج عن المألوف. وهي تجلّـت، وتتجلّى، في تكرّس الحركيين بأشكالٍ ووجوه متعدّدة وبحسب المواهب والوزنات المختلفة، وامتدّت تأثيراتها فيهم الى تأثير وتغيير ونهوض في مسار ووجوه عائلاتهم ومجتمعاتهم الصغيرة على أصعدة الوعي والإيمان والاجتماع والعلم والاقتصاد. وهذا الوعي، بامتداداته التأثيريّة، كانَ سابقًا وما زالَ إلى اليوم، وسيبقى إلى أن يشاء الله غير ذلك.  

ارتكازًا إلى هذا، نحن لا نوافق من يقول أنّ الحركة لم تعد كما كانت، وأن زمنًا مجيدًا ولّى. يقيينا أنّ كلّ لحظة حركيّة قد تحمل ما يمكن أن يكون منارة للغد. الأمس كاليوم، فيه من العثرات وأيضًا ما كانَ منارة لليوم، واليوم فيه من العثرات وما سيكون منارة للغد.

ولعلّ المنارة الأهمّ، اليوم، هي آلاف الشباب والشابات وهم في مشاهد التزاميّة في زمن يغلب فيه اللهو واللامبالاة لدى الشباب ويُشغِل أرباب الاستهلاك فيه ما يُسهم في ابعاد الشباب عن كلّ وعي والتزام.

 ______

مداخلة في حلقة خاصّة بحركة الشبيبة الأرثوذكسيّة على صفحات وسائل التواصل الاجتماعيّ لأخويّة التعليم الرسوليّ السبت 8 اذار 2025.