أحاديث الصوم

رينيه أنطون

مجلّة النور– العدد الثالث 2008


من الظواهر النهضوية في كنيستنا، والتي نشكر الربّ عليها، انكباب بعض أبناء الرعايا على الاشتراك في صلوات الصوم المسائية وتنظيم لقاءات وأحاديث تجمع المؤمنين وتزوّدهم بما يقوّيهم ويساعدهم على الثبات في جهاد الصوم لاجل اعلاء شأن كلمة الله، يسوع المسيح، في وجوه حياتهم. غير أن أمراً ينخر في ظاهرة أحاديث الصوم، يكاد يشّوه ما تنشده من أهداف، تبرز دلائله في وجهين. الأول هو حصر منابرها بالأساقفة والكهنة والرهبان واقصاء سائر أبناء الكنيسة عنها بشكل ملحوظ، والثاني هو تكرار معظم عناوينها واعتياد تقديمها ومقاربتها، أكثر الأحيان، بشكل تقليديّ أو مضمون جافّ لا يحاكي هموم الناس. وفي كلا الوجهين ما يرسّخ في ضمائر المؤمنين مفهوماً خاطئاً عن الكنيسة وصورة مشوّهة لها ويعمّق غُربتهم عنها وغُربتها عن حياتهم. هذا مع الاقرار بأن الغربتين قائمتان، أصلاً، في كنيستنا لأسباب وأسباب.

ربّما لا يعي المسؤولون عن تنظيم هذه الاحاديث، ومعظمهم من الحركيين، محاذير هذا التوجّه. وهم، في يقيني، لا يبتغون الوصول الى ما يمكن ان تؤدّي اليه من نتائج مؤذية. فهذا التوجّه، الذي قد يكون من تأثير تربية كنسية خاطئة تبالغ في تمييز "الوظيفة" الاكليريكية والاكليريكيّ، هو، أيضاً، وليد تفرّد في المسؤولية  وعشوائية  في اتخاذ القرارات تطبع قنواتنا الرعائية وتوسمها بقلّة حيوية أعاقتها، دائماً، عن أن تكون معبر الناس الى جعل الله حاضراً في قلوبهم وعقولهم. وما لا شكّ فيه أن تأثّر بعضنا بهذه المفاهيم والعلل، التي تعصف بحياة كنيستنا وتتفاقم فيها، هو من الأسباب التي قادت الى أن نحيا، أحياناً كثيرة، في حال تشابه الانفصام بين ما تربّينا ونربّي عليه من فكر وتعليم مسيحيين وبين ترجمتنا الحياتية له. 

ففي حين نعلم ونعلّم أن كنيستنا الأرثوذكسية هي كنيسة الروح القدس، المواهبية، المنسكبة على كلّ من أبنائها نعمة الكهنوت الملوكيّ، الكنيسة التي لا تُحصر، فيها، الخدم البشارية والشهادية وحسن التعليم واستقامته بالاباء والرعاة بلّ بمن وُهب من أعضائها المعرفة وعيش الفضائل والايمان باستقامة أباً كان أم إبناً، ترانا نتبنّى، لأهون الأسباب، العودة بها الى زمن ما قبل الوعي والنهضة. فنساهم في  ابراز وجه معلّم فيها وآخر متعلّم لنغذّي، من حيث ندري أو لا ندري، جنوح بعض المسؤولين نحو التأسيس لحال هرميّة، في الكنيسة، تنقض أساسها  المواهبيّ الدائريّ.

 وفي حين نشكو من ضعف الحضور الكنسيّ في وجدان المؤمنين وما يستتبعه من وهن مسعاهم التقديسي لوجوه الحياة. وفي حين  نلحظ ندرة الانخراط الشبابي في حياة الكنيسة ونُكثر الحديث عن أسبابها. وفي حين ننبري للتصريح، في كلّ مناسبة، عما يلفتنا من أسباب هذه الشكوى أو تلك ومنها بُهتان الخطاب الرعائي الذي يكاد "لا يقول شيئاً لشباب اليوم" وعجز "المؤسسة" الكنسية عن أن تكون ذات تأثير وفاعلية وسط ما يعيشه الناس ويخصّهم من تطوّر انسانيّ ومحن وأزمات على انواعها، واستخلاصاً عجزها عن تعليم شعبها واقناعه بأن  السبيل الى الاطمئنان والخلاص  يكمن في تقديس وجوه العيش وجوانب الحياة كافة. في خضمّ هذا كلّه ترانا، "نحن الشباب"، نُمعن في تأصيل الشعور بالفصل بين الالهيات والانسانيات عبر تغييب هذه الوجوه عن أحاديث الصوم والخوف من مقاربتها بمنظار ايماننا لنوحي بهذا، من حيث ندري أو لا ندري أيضاً، أن السبيل الى القداسة منبعه الاعراض عن الاهتمام بوجوه العيش.

 إذاً ليس الهدف من هذا الكلام  التقليل من شأن اطلالة الرعاة  والرهبان على المؤمنين خارج اطار الخدم الكنسية ولا من شأن التثقيف الديني بأشكاله التقليدية المعتادة. فثابت هو ادراكنا لأهميّة اطلالة الآباء ووعينا لتأثيرها الفاعل والمرجوّ، أبداً، في النفوس خصوصاً تأثير من منهم شعّت حياته بسعي تقديسيّ مشهود. إن هدف هذا الكلام هو، أولاً، التنبيه الى تناقض هذا المسلك مع التعليم وبُعده عن تلبية الاحتياجات الرعائية اليوم بعكس ما يعتقد كثيرون منّا، وذلك منعاً لأي ضرر قد يلحق بنفوس المؤمنين ولإمكان أن يصبح هذا التوجّه تقليداً كنسياً لا يُمسّ في الغد. وهدفه، ثانياً، هو التوضيح بأن كلّ خدمة رعائية، أياً كان وجهها، فانما تهدف الى استحضار الله لجعله في قلب كلّ شخص وعائلة ليواكب بنوره حياة الناس وخطواتهم. وهذا ما لا يمكن أن تتمّمه هذه الخدمة بغير أن تنطلق من تحديد الحاجات الرعائية الحقيقية للناس لا من الحاجات المفترضة في ذهن هذا المسؤول أو ذاك. 

 فان كان رجاؤنا من الصوم أن يحفزّنا على الالتفاتة مباشرة الى الربّ المربّي والمعطّي لنلتصق به  دون أن يلهينا عن هذا المسعى أيّ من عطاياه فإن هذا الرجاء يتحقّق بقدر ما يصير كلّ منّا بكلّ وجه من وجوه عيشه، حيث يعيش وكما يعيش، معبراً له الى الاشعاع والقداسة. وانطلاقاً من هذا إن كان رجاؤنا من أحاديث الصوم أن تساعدنا، وجميع المؤمنين، في هذا المسار فإن رجاءنا يتحقّق بقدر ما نرفد المؤمنين، من خلالها، بثقافة عيش مسيحيّ  ترتكز على التثقيف الديني ولا تُحدّ به لتطال آفاق الحياة المدعوّين، أبداً، الى كشفها .

 يبقى أنني أعلم  أن بعض اخوة تجاوزوا هذه المحاذير فأرجو أن يمسي تجاوزهم هذا هو التقليد الذي لا يُمسّ في كنيسة اليوم والغد. 

 

المشاركات الشائعة