وفاءً لرؤيتنا

رينيه أنطون

مجلّة النور -  العدد الثاني 2008


خير ما يختصر مسيرة الحركة أن شبانا دعاهم الروح فاستجابوا والتقوا ليتأهّلوا وينسجوا من ذواتهم إيقونة تدلّ الناس الى محبة الربّ. فكان أن بارك الله سعيهم وكثر الذين نموا في محبته واستحالوا الواناً تزيد الايقونة بهاء. فالفعل هو فعل الاله والدعوة دعوته والوليمة وليمته، وأن ننتمي الى حركة الشببية الأرثوكسية يعني أن ننتمي الى الله، فقط، لنكون خاصّته ونتبوّأ عرشاً مختلفاً عن عروش الدنيا. هو عرش الشوك الذي يزعج لحميتنا ولا ترتاح اليه أهواؤنا، لكننّا نبغيه، بحرّيتنا، برجاء أن نؤهّل ذواتنا ليمسي الربّ قائماً فينا ولتصير "فيه حياتنا وحركتنا وكياننا" (أعمال: 17 :28). نبغي عرش الشوك برجاء أن نصير، يوماً، على ذرّة من ألوهة فنُعطى أن نخسر العالم ونربح الخلاص.

نحن ندرك أننا لا نستحقّ موقعنا على مائدة الهنا، ولم ندّع يوماً غير ذلك، لكنّنا نسلك  درب هذا الاستحقاق، بما فينا من سقطات ونهوض، واثقين أن الربّ سيحرق بنوره، كلّما دنوّنا من محبته، ما فينا من زؤان. قد تُطبع ستة وستون سنة من عمر الحركة  بكثير من وجوه أخطائنا، لكنّها، أيضاً، مفعمة ببريق رؤيتنا، ورؤيتنا النهضوية منزّهة عن أخطاء حامليها "شاء من شاء وأبى من أبى". فيكفي لتكتسب نزاهتها  أنها  أعتقتنا من حال اللالون واللانكهة  وعطّرتنا بنكهة الربّ. يكفي أنها حرّرتنا من قيود الميوعة والفردية المميتة لانسانيتنا وولدت فينا آفاق الحياة الجديدة، آفاق الشركة والوحدة والالتزام. يكفي انها جبلتنا بزمن حركيّ  يسمو بنا فوق أن يدفعنا اهتراء كنسيّ الى التخلّي عن كنيستنا وفوق أن يعيقنا اغراء دنيويّ عن التزام مسيحنا. ويكفي رؤيتنا النهضوية أنها ختمتنا بسِمة "الأقوياء" ودعتنا لنواجه، بها، ضعفاتنا ونحمل، في آن، "ضعف الذين ليسوا بأقوياء ولا نسعى الى ما يطيب لانفسنا" (رومية: 15 : 1). 

بعد ستة وستين سنة، كما في كلّ لحظة، يقتضي وفاؤنا للرؤية الحركية أن نرفق التزامنا بها بفعلٍ مستمرّ لتحرير مسيرة الحركة مما قد تطبعه بشريتنا فيها من شوائب  وعتاقة.  فبهذا الفعل تتجلّى "القوّة" التي فينا. لذا إن أشرت الى ما في يقيني أننا سنُسأل عنه، يوماً، فإنما على رجاء أن نبقى "أقوياء" ويبقى الناس شاهدين على امتداد الفعل الالهي في الأبناء  مهما كثرت السنون. 

 أول ما يسألنا الله عنه هو الأساس الذي منه ننطلق، كي لا يأخذ علينا  أننا "أهملنا محبتنا الأولى"، خصوصاً بعد فتور يتسرّب الى صفوفنا بعض الأحيان. سيسألنا عما اذا كنّا نولي أمر معالجة هذا الفتور الاولوية والاهتمام والجدّية اللازمة وعما اذا كانت عشرته من خلال  الكتاب المقدّس والأسرار والصلوات والتراث والتقليد الكنسيين والمعرفة والجهاد الشخصيّ لاكتساب الفضائل لا تزال هي مدخلنا الى الافاق الشهادية الأخرى، وعما اذا كانت التربية على هذا الأساس لا تزال هاجسنا كيّ لا ننحرف بمسيرتنا الى حيث لم يشأ المؤسّسون ولا يريد هو.

واستكمالاً لهذا سيسألنا الربّ عن قدر اهتماماتنا الرعائية والفكرية والعلمية والثقافية والاجتماعية والاعلامية، وعما اذا كنّا نرى فيها، حقيقة، ما يجسّد استقامة وجوه عشرته وما يقودنا الى أن نكون " ملحاً يملّح الأرض وخميرة تخمّر". وسيسائلنا عن مدى صراحتنا في مواجهة هذا الذي يترفّع عن هذه الافاق، التي تخصّه، وينزوي ويتحجّر "من فرط سروره بذاته"، وعما اذا كنّا نُعلِمه وذاك الذي يهمل وجه الربّ  أن ليس ابناً للحركة هو أو أباً من لا يعنيه منّا أن "يأخذ على نفسه مأساة كنيسته، ويجدّد ذاته بالمشاركة في حياتها الاسرارية، ويعيش الفضائل ويكون كالخمير وسط العجين في صميم هموم البشر والعالم". 

سنُسأل عن فهمنا للمسؤولية في الحركة  وعن ثقتنا بأجيالنا الشبابية وبفعل الروح فيها بعد ما سمعه من شكاوى بعضها وما لحظه من تغييب لها في بعض الأصعدة. سنُسأل عن تكليفه لنا خدمة تلك الأجيال والاستماع اليها وتنميتها في حريّة أبناء الله والروح وابرازها في مطلات المسيح لا عن صهرها خلفنا. وسيذّكرنا الربّ أنه سيكيل نجاحنا في المسؤولية  و اتمام المهمّة بمكيال ما يخفت فيه شخصنا ويبرز هو من خلالها. واستطراداً سيلفتنا الله الى مساوئ الخلط القائم، عند بعضنا، بين التقليدية والتقليد ما يجعلنا في فتور تجاه أيّ جديد، مؤكّداً لنا حزنه لجماد المسالك والأطر لدينا وفرحه إن تجرّأنا على نقض ما يؤول بنا الى الركود ، أكان فينا أو حولنا، وسخّرنا الخبرة و العقل والعلم، دون قيود،  لبشارة، أفعل، بكلمته.           

وسيسالنا الله  عن جرأة شهادتنا باسمه واعلان موقف ابنه، وسيلومنا بعد أن طال الزمن ووجه كنيسته الانطاكية لا زال يعوزه البهاء. سيلومنا بشدّة ويلفتنا الى بعض ما يطبع هذا الوجه ويؤلمه. فلماذا لا زالت تسود فيه الدنيويات وتخفت الالهيات، لماذا تغيب الفضائل عن بعض الوجوه فيها ويسود فيها غير قِيمي، لماذا لا يُشرَك الشعب المؤمن بهمومها، لماذا تُهمل فيها القوانين، لماذا أغيب عن مؤسساتها ولا يأخذ الفقراء مكانتهم فيها، لماذا  تُغيِّب اسمي ولا تطلّ به على مآسي الناس في الوطن والعالم، ولماذا لا يتصارح الذين يحبونني وارخيت عليهم نعمتي بواقعها ويأخذون دورهم بنهضتها. 

ليس في الذكرى فقط، بل في كل لحظة، سيسألنا الله عن جدية التصاقنا بالرؤية التي حملت محبته الى الناس ويبارك مطلقيها. أما رؤساءنا، ولكون الذكرى تعني كنيسته أولاً، فسيسألهم، أقلّه، عن تحلّيهم "بقوة" هؤلاء الشباب في مواجهة ضعفاته وعن تمثّلهم بوحدته. وعلّهم سسيُسألون، أيضاً، عن رعايتهم للحركيين و محبتهم لهم ودعمهم ومصارحتهم اياهم وثقتهم بسعيهم. حينها لن يبقى علينا، نحن وهُمّ، سوى أن نعرّي ذواتنا أمامه ونجيب.

    

المشاركات الشائعة