فرحنا الميلادي

رينيه أنطون

نشرة الكرمة

                                     

قبل حلول عيد ميلاد المخلّص تسألنا الكنيسة أن نتهيّأ لاستقبال هذا الحدث الخلاصي العظيم، وتدعونا الى أن نسلك بالصوم في مسيرة تهيئة ذواتنا له. هذا لأن الصوم في تعليمنا هو أن نفرغ أنفسنا ممّا لها ونملأها بالربّ وما له، أيّ أن نُعرض عن التمتّع والفرح بكلّ ما وهبنا ايّاه الله من خيرات ونِعم لنتذكّر الواهب لنا والمُنعم علينا ونتمتّع ونفرح به وبوجهه معنا وبيننا. وهذا معناه، كذلك، أن نضع ما يفيض عن اخلاء ذواتنا تحت أقدامه هو في خدمة أحبّائه الصغار لنؤكّد "لمن أحبّنا أولًا"، أن حبّه لنا يملؤنا ويملأ شغفنا بكلّ فرح وجمال وخلاص. إن سَعَينا، بصدق، في مسيرة ايماننا بالربّ يسوع الى هذا التخلّي وتحلّى استعدادنا لاستقباله بالجدّية المرجوّة نُعطى أن نفرح بتجسّده بيننا وأن نعيشَ الحدث بما يُفرح المولود بيننا اليوم ولا يؤلمه.

لا يُضير الكنيسة، ولا يؤلم الربّ أن نَفرح بالميلاد كما اعتدنا بتقاليدنا البشرية والدنيوية أن نفرح، خصوصًا وأن الهنا قد تجسّد واختبر طبيعتنا البشرية بما فيها من فرح وألم دون أن تطاله خطيئة. لكنّ ما يطعن ايماننا، ويُضير حياتنا وخلاصنا كقوم يخصّون الربّ، هو أن نُغالي بأشكال الفرح الدنيوي ونغرق فيها حتّى نتغرّب عن وجه المولود وما يخصّه ويعنيه لنفقد، مع هذه الغربة، فرحنا الحقيقي والأهمّ. 

يؤلم الهنا، ويؤلم كنيسته، أن ننتهز هذا العيد مناسبةً للافراط في الاستهلاك وإشباع روح البذخ والترف لدينا وتجاهل الفقراء والامهم. يؤلم الهنا ألا نكون، في عيده، كما دعانا أن نكون، فلا نتميّز عن العالم كأبناءٍ له، ولا يتميّز فرحنا واحتفالنا به عن فرح من لم يعرفه واحتفاله. يؤلم يسوع أن نتعامى عن أنّ تجسّده بيننا، وحضوره معنا وفينا، إنّما شاءه حضور خلاصيّ لنا وللعالم من نتاج الخطيئة والشرّ، من كلّ ألم ومعاناة وقلق وأزمات واضطرابات.  

كلّ ما يجري حولنا اليوم يضعنا، في عيد ميلاد الربّ، أمام دينونة كُبرى. كيف نحافظ على هويّتنا، في هذا الزمن الصعب، كأبناء له. كيف يتحسّس المتألّمون والنازحون والفقراء وضحايا العنف والحروب حنان الطفل الاله عليهم عبر حناننا نحن الأبناء واحتضاننا لهم. هو السؤال الذي وجب على كلّ منا، وعلينا كجماعة الربّ، أن نجيب عليه بالفعل لا بالكلام والقول. أيّ بأن نثبت في ما يربّينا عليه الانجيل من فضائل ومفاهيم مهما ابتعدت عن سلوك عالمنا ومفاهيمه. بأن نثبت في المحبّة الحاضنة للكلّ التي تشابه محبّته المتجسّدة التي بها ننعم ونحتفل اليوم. فلا يعني يسوع بشيء أن نتغنّى ببساطة ولادته في مغارة وبحبّه للفقراء. ما يعنيه هو أن نعيش البساطة التي شاءها لحياته بيننا وأن نحبّ من أحبّ، وكما أحبّ هو. يعنيه أن يلمس فرحًا حقيقيًا لدينا بتواضعه وقناعةً عميقة بأن هذا التواضع إنّما هو، في نظرنا، العَظَمة الوحيدة التي ننشدها لأنّه قمّة المحبّة. يعنيه أن نلبّي دعوته، في الميلاد، الى مائدة حبّه لنتذوّق طيب عطاء الذات والفداء. ولا مدخل الى هذه المائدة اليوم، ولا سبيل إلا واحد، وهو أن نقتلع قساوة قلوبنا ونطرّيها، بولادته فيها، إزاء كلّ نتائج ما يحدث حولنا وإزاء كلّ ذي حاجة. ويسوع لا يولد إلا في رحم البساطة والوداعة والحنان الإلهي حيث يرتاح وينمو. 

فرحُنا الميلادي يمسي فرحًا مشروعًا يومَ يُفرِح الربّ المولود، وما من شأن يُفرح ربّنا اليوم إن لم نعمّد استذكارنا لأعظم الأحداث الخلاصية في مسيرة ايماننا به بمشاركة الفقيرِ عطاءً دون حساب، والبسطاءِ مرافقةً ورعايةً دون خجل، والنازحِ إيواءً دون منّة، والشهداءِ صلاةً دون كَلل، والمظلوم ِصرخَة عدالة لا تخفت. يومَ تَسطع هذه المشاركة فينا، جماعةً كنسية وأفرادًا، يعرف الناس، اليوم، "أننا تلاميذه" فستحقّ ميلاد الربّ ويستقيم احتفالنا به. وبغير هذا لا نكون من الربّ بل كسائر الناس، في العالم ومنه. فتعالوا نحجّ معًا الى المغارة، مسكن البسطاء، حيث يقيم هو، فعلًا، ويرتاح.           

 

 

 

 

المشاركات الشائعة