حديث الأمين العام - المؤتمر الحركيّ 2020
رينيه أنطون - المؤتمر51 (عبر تطبيق زوم)
أيها الأخوة
سلام بالربّ الذي "انسكبت محبته في قلوبنا بالروح القدس المُعطى لنا"، وبها صرنا في "رجاء لا يُخزي رغم كل الضيقات". (رومية ٥: ٣ -٥.
ينعقد مؤتمرنا هذا العام، رغم هذه الضيقات، بشكلٍ يتآلف وأوضاعنا اليوم ومعجونًا بالهواجس التي تطرحها. وقد شئنا انعقاده رغمَ كلّ الظروف، وباصرارٍ ليس مردّه الى ضرورات ادارية، ولكوننا اعتدنا هذا اللقاء سنويًا في حياتنا الحركية وحسب، وانما لتأكيد أنّ ما يُصيبنا من شدائد ويحوطنا من صعوبات ومعوقات، مهما بلغَ، لا يُبطِل توثّبَ كلّ منا وحاجته إلى الأخوّة الجامعة في المسيح، لا بل يدفعنا إلى مزيد من هذا التوثّب الذي هو هواءُ الحركة وغذاؤها وغِناها، والذي لنا فيه، في الشدائد، الفرح في الربّ والعزاء. لقاءاتُنا هي المصلُ الذي يمدّنا بالمحبّة ويُغني فينا مواهب الروح اللذَين لا حياة للحركة ولا استقامة لمسيرتها دونهما.
نُعنى في هذا المؤتمر، اليوم، بفترة تسعة أشهر بدأت في الأول من اذار. عناوين هذه الفترة تُختَصر في بلدينا سوريا ولبنان بالوباء والأزمات الاقتصادية المؤلمة، مُضافًا إليهما في لبنان الانفجار الغير مسبوق في بيروت. فنشكر الله، بدايةً، على سلامة كلّ من سلم من هذه الشدائد، وخاصة مَن أصيب وشُفي، وندعو لكلّ الضحايا بالرحمة، ونسأل الربّ أن يتلطّف بعالمنا ويُبعِد عنه الشرور. ولأجل استغلال الوقت بشكل نافع، وكعادتي، لن أسرد الخطوات التنفيذية في الأصعدة الحركية المختلفة. فكلُها أُدرجت، بشكلٍ او بآخر، في مواقعنا الاعلامية وتضمَّن خلاصَتَها تقرير امانة السر التنفيذية المُرفَق والخاضعة مضامينه للتقييم والنقاش. اكتفي بما أضافته هذه الفترة إلى حياتنا الحركيّة، وفاقمته، من تحدّيات. وأبدأ من تقدير الجهود الكبيرة التي بذلها رؤساء المراكز والمسؤولون في الأمانة العامة، كلّ في نطاق مسؤوليته، في هذه الأوضاع الاستثنائية، ومن الانحناء لما أبدعته شبيبتنا الحركية من ""ثورة" تفاعل ومشارَكة في مسح الخراب والجراح بُعيدَ لحظة انفجار بيروت. وهي ما لفتَنا وقادنا الى ورشة الخدمة التي فتحناها بهذا الشأن، والتي كان قد سبقتها مبادرات الإخوة في سوريا، في إكثر من محلة وصعيد.
الوحدة الحركيّة
أيها الأخوة، بدايةُ هذه الفترة، توجهت في خطّة شاركتكم بها إلى إيلاء الأولوية لشأنَين: الوحدة، وهي الهمّ الدائم، وصون الحركة ممّا قد يُبعدها عن هويتها ويغرّبها عن أهدافها وغاية وجودها. والخطر الأخير دائم ومُقلق طالما تتراكم السنون في عمر الحركة، ونواجه في يومياتنا واهتماماتنا الحركية الكثير من الجديد. وانطلاقًا من يقيني أن الأصالة والوحدة الحركية شأنان لا ينفصلان، وأنَّ الأصالة الحركية هي في التحلّي بالهويّة، ووعي الأهداف والغايات، التي شاءها المؤسّسون، والتزامها، ارتأيت من ضمن التوجّه تكليف الامناء العامين المساعدين بحمل هذا الهاجس، بشقيّه، إلى المراكز وفق رؤية مُتّفق عليها معهم. ورغم ان استحالة التنقّل واللقاءات المباشرة لم تُفسحا المجال بعد للانطلاق بالخطوة، عمليًا كما يجب، والحكم على نجاحها أو عدمه، فأنَّ هذا الهاجس ترسّخ لديّ بعدَ ما عايشته هذه الأشهر.
في العام ٢٠١٥، صارحتكم في أن لا يكفي أن نعبّر عن وحدتنا بالشكل والنية، وإنما بمفاهيم واحدة لعناوين أساسية ورؤى مُشتركة لها، وتساءلت أمامكم، منطَلقًا، عمّا إذا كنّا نحدّد أولوياتنا ونتصرّف بموجب تعريفنا أنّ الحركة "هي ورشة لبناء الشخص والجماعة في يسوع المسيح بغاية أن تصل بهما الى امتلاك الرؤية الايمانية العميقة التي بها ينهضون ويساهمون في نهضة كنيسة المسيح". اليوم، باختصار، أرسَخ في هذا التساؤل أو يزيد قلقي لجهته بعدما أضيفَت أسبابٌ وعناوين تدفع اليه غير تلك التي تعود لتأثّر أولوياتنا بالمحلّيات ولانشغالاتنا بالأشكال المؤسّساتيّة للحركة. وسأتوقّف عند عنوان واحد منها بتفرعاته. وهو الأزمات والانهيارات الاقتصادية والمجتمعية التي نواجهها.
العمل الاجتماعي
باختصار، حدّة هذه الأزمات دفعتنا في السنوات السابقة، على صعيد الأمانة العامة وبعض المراكز، الى التوجّه بشكل أساسيّ نحوَ الشهادة على صعيد العمل الاجتماعي منغمسين بشدّة في بُعده المؤسّساتي ومتطلباته وساعين خلف جهات مانحة لدعمه. هذا ما جعل هذا العمل، حيث هو قائم، يحتلّ مساحة كبرى من اهتمامنا ويشغل الكثير من أوقاتنا. ما يطرحه هذا الشأن من إشكالية تنبع، برأيي، من التساؤلات الآتية حول مخاطر هذه الحال على أصالة الحركة. اعلم أن هذه التساؤلات مكرّرة، ويجب ان تبقى، برأيي، مكرّرة لتبقى الحركة:
فهل الاستمرار في هذا التوجّه يسمح لنا بالحفاظ على التربية النهضوية، بركيزتها الارشادية، كهمّ أولويّ أساس في شهادة الحركة. وألا يجعلنا هذا في خطر الدنوّ من أن نكون مؤسّسة مجتمعية وليس تلك الورشة؟ كما، وإن كنا نسعى الى توضيح وتنظيم وضبط متطلبات وآليات وقواعد التعاطي مع المؤسّسات المانحة، عبر لجنةٍ أنهت عملها وستبتّ الأمانة العامة في اقتراحاتها خلال اجتماعها الأول بعد المؤتمر، ألا يُشكلّ هذا التوجّه الذي أراه يتنامى كعدوى، من الناحية المبدئية، خطرًا على استقامة رؤيتنا للعمل الاجتماعي إن أمسى هو ركيزته؟ بمعنى ألا يعطّل هذا وجهَه الرعائي، وبُعدَ الالتزام الشخصيّ، لدى الحركيين، بالعطاء، والذي وجب أن يتجلّى كثمرة هامّة للتربية النهضوية، ثمرة محبّة والتزام شخصيّ "مُكلف" للمحتاجين؟ وكيف لنا أن نصون الهويّة إزاء هذه المخاطر؟ يقيني أننا نحتاج إجابة مبدئية جريئة صريحة تعكُس القناعات وتُقرّ بالواقع والمخاطر، بحقيقتهما، دون تجميل أو تشويه، متذكّرين أن فعل المحبة تجاه المحتاجين إنما يُدعى كلّ منا اليه، بشكل شخصيّ، كأفق شهادي لايمانه يساهم بتحرّره من قساوة القلب وتربيته على التخلّي والشركة، وأنّ قوننته تجعل منه نشاطًا وليس أفقًا شهاديًا.
شؤون الأرض والمجتمع
حدّة هذه الأزمات ذاتها، أيقظت لدينا ما سبق وشغل الحركة في فترة تأزّمات وتمخضّات سياسية واجتماعية كُبرى سابقة. سنة 1970 أصدرت الحركة وثيقة "التزام شؤون الأرض" بهدف أن توضح للحركيين دورهم الانجيليّ، الشخصي، في ظلّ هذه التمخَضات وتحثّهم على التزام هذا الدور مترسّخين في هويّتهم الايمانية ومنمّين لها في آن، ومتشبّثين، أينما حلّت شهادتهم، في هداية الانجيل، والانجيل فقط، لهم.
ليسَ من شكّ أن هذا الوثيقة لم تتخذ مكانتها وما تستحقّه من ترجمة في ضمير الحركة، جماعةً وأفرادًا. وليس المجال هنا مُتاح لسرد ما يمكن أن تكون الأسباب. لكنني واثق أن أحد الأسباب الأساسية هو أن القناعات الفكرية حولَ الوثيقة ومضامينها ليست واحدة، وأنّ الحوار، ما قبل الوثيقة وما بعدها، لم يكن بالقدر والوضوح المطلوبين لجعلها راسخة في الضمير.
اليوم بعد نصف قرن بالتحديد يتضاعف، وبمرّات، حجم التمخَضات عن تلك التي أحاطت بتلك الفترة. هذا من جهة. ومن جهة أخرى ولّدت هذه التمخّضات آفاقًا لما انطلقت منه الوثيقة تُضاف الى ما حدّدته من آفاقٍ، كأمثلة، مثل نبذ الطائفية، والتزام السعي الى العدالة الاجتماعية وقضية فلسطين. هذه الآفاق نستشفّها ممّا واجهنا خلال عشرات السنين من تحديات حياتية يومية منها مثالاً، (الحرية، الاستهلاك، العنف، الأصولية، الظلم، الفقر، الفساد، البنى الجائرة، البيئة، حقوق الانسان، العولمة، الاعلام، التواصل الاجتماعي الخ...) وأضاءت عليها كتابات العديد من الأخوة الحركيين، وقد يجمع بعض خلاصاتها الملف الذي أرفقه لكم، وأودعني إياه الأخ ريمون رزق مشكورًا.
ما يُواجهنا اليوم بهذا الشأن يتفرّع على ثلاث مستويات:
الأول مبدئيّ وهو كيف نكون على قناعة واحدة مُستمَدّة من تعليمنا، وهي حتمية اهتمامنا بهذا البُعد انطلاقَا من كون كلّ ما خصّ الانسان والحياة والخلق إنما التزامه هو من صلب هويتنا وصلاتنا لأنه خصّ الانجيل وعنى سعينا الى أن نجعل ملامح ملكوته، حيث "العدل والحرية والفرح ولا وجع ولا حزن"... تسود في الأرض.
الثاني عمليّ، وهو كيف نربّي ونتعهد بعضنا ليطلّ كلّ منا بهذا البُعد، في هذا الزمن القاتم، معمّدَا متغذيًا بالصلاة، ومتحليًا بفرادة التحرّر من الحقد، وتقبّل الرأي والصوت الآخر، ومًظَهّرًا، من خلاله، صدق الموقف وشفافيته الشهادية وارتقائه الانجيلي وشخوصه إلى ما هو أسمى من كلّ تطلّع شخصيّ أو حزبيّ ومصلحة، خصوصًا بعد ما نشهده من امتداد لروح التحزّب، بين شريحة من الأخوة.
الثالث، كيف تكون الحركة "هاديةً لأبنائها وضابطة". بمعنى كيف توفّق بين تشديدها على البُعد الشخصي لهذا الالتزام الشهاديّ، ولكلّ التزام شهاديّ تدعو أبناءها إليه، وبين مسؤوليتها في أن تحفظ أبناءها في استقامة شهاتهم هذه وأمانتها لفكر الانجيل.
اليوم بتنا نحتاج هذا الحوار الصريح والعميق رغم اختلاف الأوضاع والبُنى التي تحوط بحركتنا حيث تنتشر، ودون تجاهل خصوصيات الأوضاع هنا أو هناك، لنُنعش الأسس التي رسمتها وثيقة التزام شؤون الأرض ونطلقها من الادراج متحصّنين بها لنقل المسيح الى عالمنا معمّدين به همومه واهتماماته الآنية. لقد بدأت لجنة من بعض الأخوة باكورة حوار على هذا الصعيد. ولربما مقاربة هذا الشأن قد تحتاج تطوير هذا الاطار في حال توافقنا على محورية هذا العنوان في ما يواجهنا اليوم.
أيها الاخوة، من المشروع أن تطرح علينا فترة ثمانية وسبعين عامًا من عمر الحركة الكثير من التساؤلات حول مدى وحدتنا وأمانة حضورنا اليوم لما شاءه الله للحركة من حضور. ومن غير المشروع ألا نُقرّ بهذا ونعي أنّ هذه الأمانة، أو تلك وحدة، ليست آلية. هي تولد من المخاضات المستمرة، وتثبت من تغذيتها بالمحبّة المُصارحةِ والمحاوِرة. هذه المصارحة التي وجب أن تكون دائمة هي ما تُخرجنا من نفق التشرذم "الفكري" وفي "الأولويات والاهتمامات"، وتربّينا على التحلّي بسعة الآفاق وفضيلة الاصغاء والبحث عن ومضات الحقيقة في طرحِ كلّ جماعة وأخ وآخر.
على هذا الرجاء أدعكم في عهدة ربّنا يسوع المسيح والسلام.