كلمة - لقاء في فيع الكورة

رينيه أنطون - 2012


السؤال مشروع: لماذا هذا التحرّك إذا جازت التسمية حول المطران بولس بندلي؟

والجواب بكلمـات لأن ما جسّده في حياتـه، الذي سآتي على ذكر القليل منه لاحقًا، جعلــه أكبر من قامـة إيمانيـة استثنائيـة. جعلـه قضيّـة كنسية بامتيـاز.

هو قضيّــة لسببين، أولّهما كثافـة الرسائل المُعلّمة التي وجّهـهـا لنا بحياتــه معنا على الأرض، وثانيهما حاجـة حياتنا الكنسيـة اليوم، أكثر من أيّ يوم مضى، الى أن تُحفر في حيـاة رجالها سير قداسة كسيرة المطران بولس.

ولعلّه هو الوقت والمناسبة للتوضيح أن أحدًا منـا لا يهدف من هذا التحرّك حول المطران بولس الى الضغط والتركيز على إعلان قداسة هذا الرجل أبدًا . فنحن، رغم  ضعفاتنا، أبناء كنيسة، ونعرف أن هذا الموضوع يتطلّب وقته ومقتضياته وآلياتـه، ويتطلّب أولًا وأساسًا مقاربته بشكل بعيد عن أيّ منحى شخصي وعاطفي وما إلى ذاك. لكن، ولأننا أبناء كنيسة، نعلم أيضًا أن في واقع حياتنا الكنسية اليوم ما يسهّل عليـها كثيرًا أن تنسى سير القداسة كسيرة المطران بولس وغيره ممّن شابهه، وتدفن هذه السير والمفاهيم الانجيليـة التي عاشها "قدّيسون" لتصدّر مكانها سير أكثر غربـة عن هذه المفاهيم وأقرب بكثير الى مفاهيـم الدنيا والناس.

الدليل الأوضح على هذا الأمر، وهو حقيقـة ثابتة يجب أن تقال، أن نهج المطران وتصرفاته وأساليبه لم تكن مقبولـة أو مهضومـة من شريحـة واسعة من رجال الكنيسة وشعب الكنيسة، ولم تنجـو تصرفاته وأساليبه (غير المفهومة والمألوفة في نظر الكثيرين) يومـًا من الانتقاد والاستغراب، هذا لسبب أنّه عاش، عامة، بمفاهيم الله ومنظار الله ورؤية الله وكلمة الله التي كشفها لنا بيسوع المسيح، في حيـن أن معظمنا لا يزال بعيدًا أو غريبًا عنها.

لهذا، رغم الاحترام الكبير الذي كان للمطران بولس في ضمائر المؤمنين، لم تُثَمًّن خصوصية حضوره بيننا ووجوه القداسة فيه إلا بعد انتقالـه وشعورنـا بفراغ كبير في حياتنا الكنسية على هذا الصعيد.

سأحاول إبراز هذه الخصوصية باختصار كبير وبشكلٍ لا أكّرر فيـه ما ستسمعونه في الفيلـم الذي شاهدتموه الآن.

أولًا، لم يتعامل المطران بولس مع الايمان بيسوع المسيح كحالـة "فوقيـة" خارجة عن وجوه حياته يتطلّب الوصول اليها الكثير من الجهاد والتعب والتخلّي وما إلى ذلك. هو، ببساطة، عشق يسوع المسيح وأحبّه حتّى لبسه وصار هو سرّ راحته وفرحه واطمئنانه وسلامه. هذا ما يفسّر لنا ما كنّا نستغربـه عن حجم الجهد والتعب اليومي الذي عاشه وكنّا نصنّفه "لا انساني".

ثانيًا، لم ير المطران بولس ولم يعلّم ولم يعش أيّ تناقض بين حبّه ليسوع وايمانه به والعيش بمقتضى انجيلـه وبين عيشه وجوه الحياة في العالم. كان يأكل ويشرب ويفرح ويحزن، ويولي العلاقات الانسانية أهميّة كبيرة، ويدرس ويعلّم ويحث على العلم ويشجّع عليه ويخدم الناس لتسهيل اكتسابهم له. مـا فعلـه أنّه أكسب وجوه الحيـاة في العالم ركائز جديدة وأثبت بشكل لا يقبل الشكّ الآتي:

أنّ ليس بالضرورة أن يكون سبب الفرح والسعادة هو المال والرخاء،

وليس بالضرورة أن يكون سرّ الراحـة هو الفراغ واللهو،

وليس بالضرورة أن تكتسب قيمتك الانسانية ومكانتك في العالم من علاقاتك الاجتماعية مع الأغنياء والنافذين، ومن المظاهر الخارجية كالّلباس وأماكن السكن وغيرهما.

فأنت يمكنك أن تكون في العالم، وليس بالضرورة خارجه، في كامل فرحك وسعادتك وراحتك وقيمتك الانسانيـة بنظرة العالم نفسه، دون أن تتخلّى عن ثباتك في يسوع المسيح.

ثالثًا، أثبت في حياته أن لا شيء مستحيل مع المسيح وأنك قادر على أن تقول لهذا الجبل انتقل. لم تطأ قدماه أرضًا إلا وقلبتهـا وغرست فيهـا واحات ليسوع المسيح وكنيسته. الميناء شاهدة، معظم قرى وبلدات الكورة شاهدة، دمشق شاهدة، كلّ قرى ومدن عكار شاهدة.

فقد تسلّم عكّـار منطقـة قاحلـة، جرداءَ إيمانيًا وكنسيًّا على صعيديّ الحجر والبشر، تعج بالشيع والبدع والاقتناص. سلّمهـا منطقة تعج بالحيويّة الايمانية للشباب وبالمؤسسات الكنسية الفاعلـة والشاهدة والناجحـة، رغم أنّه ليس اكثر "المطارنة" فقرًا وحسب، بل أكثر االأشخاص فقرًا. سلّمها، وهي أكبر الأبرشيات جغرافيًا، المنطقة التي عرفت كلّ بيوت المؤمنين فيهـا المطرانَ مؤاسيًا ومعزّيا ومبلسِمًا جراح.

رابعًا، ربّى على الايمان بيسوع المسيح بالمحبّة والحريّة. فلم يقدّم يسوع المسيح الى أحد كناموس وشريعـة وقوانين، قدّمه دائمـا كفعل محبـة وطريق خلاص يقتضي سلوكها بكامل حرية الانسان وباحترام كبير لهذه الحريـة.

خامسًا، علّم كيف ينقص الانسان ليزيـد المسيح. فأينما حلّ كان يسوع المسيح أمامه متصدرًا أمامه في كلّ خطوة وعمل وتوجّه. ورغم قامته الايمانية الكبيرة وتأثيره الكبير في حياة الاشخاص وتلمذتـه لآلاف المؤمنيـن لم يسمح لنفسه أن يكون لـه فسحة ضيقة في ضمير أحد من تلاميذه تأخذ من الفسحات المفروض أن تكون للمسيح. هو من الآبـاء الروحيين القلائل الذين لا يعرف الناس معظم تلاميذهم لأنّه ربّى على الرشد الروحي.

سادسًا، علمّنا كيف يكون الفقراء والبسطاء، حقيقةً، سادةً في الكنيسة. فكان لهم الأولويـة وكانوا الأساس حيثما برزوا في حياته وأمامه. لم يعطهم من الفضلات أو مما تبقّى، ولم يتأفّف من فقيـر. كان يحجب عن نفسه وعن الكلّ لتكون لهم العزّة، وكان يرافقهم بشخصه الى حيث يحتاجون خدمـة ليعلّم، ويقول للناس أن كرامتهم من كرامته هو الأسقف وبالتالي من كرامة المسيح.

المطران بولس بندلي أنعم الله علينـا أن نعاصر بمعاصرتـه معمدان عصرنا ورسول عصرنـا ورحوم عصرنـا. سنُبقي سيرته حاضرة في ضمائرنا وضمائر أجيالنا حتى نصل أن نعيش وتعيش كنيستنا بنور الله وكلمته. والسلام.

 

 

 

المشاركات الشائعة