كلمة - عيد الحركة جبل لبنان 2006

رينيه أنطون


لم أكن أدري، حين انتميت الى هذه الحركة، أنني أغوص  في رحم فيه من فعل الله في البشر الكثير. ذلك رغم تساؤل لم يغب عنّي كلّما قرأت في ومضات تاريخنا وفي وجوه بُناته، وهو كيف للبعض، وكلّنا مصلوبون على خشبة الأهواء، أن يستحيل في لحظة عمر عاشقاّ للقيامة؟ واستمرّ جهلي زمنًا الى حين سمعت جورج خضر، وقد سُحرت بضياء فيه منذ شبابي، يقول أن الحركة وليدة فعل الروح في الناس. فقلت في قرارة نفسي أن مكّة أدرى بشعابها وأن هذا المُلهم أدرى بما حرّك أحشاءه. وتأملّت فيما قال وتوصّلت إلى أن قوله لا غطرسة فيه بل تعليم. فبساطة الأمر أنك إن شئت الخلاص فلا مناص لك من أن تسلك طريق الله. وإن شئت ان تكون هذا السالك عليك أن تستحيل بهيكلك رحماً له. وكي تكوّن بهيكلك هذا الرحم عليك أن تكون عشير كلمته. وحكاية الحركة كلّها تبدأ من هذه العشرة، وهي تصل بك الى العشق الذي، به، رشح المؤسسون جمالاً. إذ ذاك تكون قد أفرغت ذاتك من أناك ليحلّ الكلمة فيك ويطلق لديك فعل روحه. فإن قاربت عشقاً كهذا حققّت الغاية من حركيتك لأن الباقي يعطى لك. وهذا هو الثابت في رؤية الحركة. أما وجوه التعبير عن حركيتك، أي وجوه الخدمة في الحركة، فإنها متحرّكة قابلة حتى للنقض على قدر ما أنت مختبر، من خلالها، لعشقك في الآخرين، أو على قدر ما هي قناة تصل بك الى هذا العشق.


التربية الحركيّة

بنور هذه الانطلاقة  أتأمّل امامكم، اليوم، في بعض من هذه الوجوه مذكّراً بما أراه من مقومّات استقامة لها، وذلك منعاً لاستسهال التضحية بها أمام صعوبات تعترضنا أو ما شابه. أبدأ بأهمّها وهي خدمة بناء الشخص بيسوع المسيح، أي الخدمة التي  اصطلحنا على تسميتها بالتربية. هي أساس لأن الشخص المبني هو من بناة الجماعة. وغاية الجماعة في الكنيسة أن تعكس الشركة بين الله والانسان ليمسي تأهيل الشخص لعيش هذه الشركة هو ما ننشده من هذه التربية. ولهذا الاتجاه في التربية أسس يُبنى عليها أولّها أن الأقرب الى عيش هذه الشركة هو أنفع المرّبين وأعلمهم في آن. فالمعرفة التي تخدم بناءنا التربوي ونرنو اليها هي التي تُقارب بنور كتابنا المقدّس. هي معرفة كيانية عميقة ترتكز، لا على المعلومة وحسب، بل، أيضاً، على الخبرة بالآخر سبيلاً للشركة معه، ولذا فإن كمال هذه المعرفة مرهون بعشرة الله صلاة وكتاباً وعيشاً، لأن قبلتها أن تصلك به لتعرفه لا لتعرف عنه. "على أنه لم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر" يقول الكتاب.

في يقيني أن من يكتسب هذه المعرفة المختبرة والمختبرة، في آن، يُسهم أيضاً في تحرير تربيتنا من وهن كونها غريبة عن قدرات الناس وضعفاتهم لأنه يعي موقع المعايشة والإفتقاد في التربية. فالكلمة لن تفعل فعلها في أحشاء أمرؤ ما لم  تنطلق من قدراته وتتوجّه الى معاناته كما انطلق الكلمة من معانات الناس ولأجل خلاصهم.


الحضور الرعائيّ

بهذا المفهوم أنطلق الى خدمة ثانية هي بناء الجماعة، إنطلاقاً من الرعية، حيث همّنا المساهمة في تفعيل خبرة الشركة في مدى الكنيسة. من هنا تكتسب الرعية موقعها المتصدّر في ضميرنا الايماني، فبها تكمّل رؤيتنا لأنها الحقل الذي نُزرع فيه بذوراً لنهضة نرجو أن تعمّ الكنيسة. لذا أولى وجوه خدمتنا هذه أن نستحيل بتربة كلّ رعية أرضاً صالحة لحمل هذه البذور. وأول سبلنا الى ذلك هو الحثّ على تفعيل الرعاية وحضور الله وسط كلّ عائلة عبر حضورنا بكلمة مربّية ومعاونة ومبلسمة لجراح كلّ عائلة. فجراح العائلات تكثر وأزمات الخلق والوعي والاقتصاد تتفاقم وترخي بنتائجها المدمّرة على هذه العائلات وسط حضور كنسيّ ضعيف.

خدمتنا الثالثة هي خدمة الوحدة في كنيستنا وتستقيم إن كنّا خمير وحدة لا وقود شرذمة. ولا ضير من التذكير، حيث تكثر الخلافات، أن الوحدة هي من أهمّ آفاق نهضتنا. من هنا لا أرى خصّاً للنهضة ولا صفة نهضوية لأيّ خلاف أو تحريض يفرزه واقعنا الكنسيّ إلا في حال كان منشأه خروج أحد عن الشركة.   موقعنا، إزاء الخلافات الكنسية، إن وجدت، هو في صفّ  وحدة الكنيسة، محصّنين بهذا الموقع كيّ لا نجرّ أو نستغلّ لموالاة هذا ومواجهة ذاك. أما مواجهتنا لانفعالات البعض إزاء وجودنا أو طروحاتنا فستبقى في ثباتنا برؤيتنا والتبشير بها لايماننا أنها من طرق الخلاص بيسوع المسيح دون أن ندين شخصاً. فإيماننا أن النهضة هي محاربة للخطيئة لا للشخص الذي يبقى خلاصه هو الغاية.

 

الفقــراء           

أما خدمتنا الأخيرة التي أعيد تذكيركم بمقوّماتها لأن خدمنا الأخرى تستحيل دونها لغواً هي خدمة الفقراء. فأخطر ما يواجهنا، كعائلة كنسية، اليوم، هو ما تدفع اليه حدّة الفقر من استباحة لكرامة الفقير وحرّيته لحساب متمولّين وأصحاب نفوذ. دينونتنا كبيرة أمام هذا المشهد، وقد بات مألوفاً في بلدنا. دعوني أقولها بصراحة. نحن الكنسيّون لا نولي قضية الفقر الى اليوم الاهتمام الجدّي الذي تستحقّ. والدليل كيف ننجز بناء وتطوير مؤسساتنا، مستشفيات وجامعات ومدارس، وعلى هذا نشكر الله، ونعجز في آن عن تطوير وتفعيل خدمة الفقراء في حدّها الأدنى. ولهذا تعلمون كم أن مشهد مؤسساتنا، وهي تنمو، بات جارحاُ للفقراء. مسؤوليتنا، اليوم، أن نسعى كي لا تغيب روح الله عن هذه المؤسسات، وهذا كلام قلته أقلّه لناحية أن تتساوى أولوية احتضان الفقير فيها وأولوياتها الأخرى، وأن تتقدّم أولويته بالحق في فرص العمل إن امتلك الكفاءة المطلوبة. مسؤوليتنا ثانياً، أن نستحيل بعملنا الاجتماعي هماً جماعياً لا همّ فريق أو مؤسّسة. فهذا العمل، في الرؤية الكنسية، ليس بوجه نشاطي بل حالة تشاركية تعني الكلّ لأن بها يخرج كلّ من أناه في سعيه الى ملء انسانيته بقامة ملء المسيح. مسؤوليتنا ثالثاً، أن نسهم بتفعيل صوت كنيستنا الضعيف الناقل لمعاناة الناس والمطالب بحقوقهم أمام المسؤولين في الدولة. وأعني بصوت كنيستنا صوت الرعاة وصوتنا جميعاً في إطلالاتنا المجتمعية والاعلامية، أياً كان  منبرها.

فلا تتعجبّوا أو تخافوا من ولوج الأمر في ظلّ طغيان التجاذبات السياسية، لأن حضورنا في ما يخصّ الشأن العام، خدمة لما يخصّ الانسان وصوناً لكرامته، هو خدمة كنسية بامتياز. المهمّ أن نلج هذا الشأن من باب السماء لا من باب الأرض،  أي من باب التعالي عن المصالح الضيّقة والتحزّب والفئويات السياسية والطائفية كيّ لا نحلّ بأمر مكان الأساس الذي منه انطلقنا.      

أحبائي، يبقى أن أقول أن من التواريخ ما رُمي في منسيات الزمن، ومنها ما أمسى ملكاً لبشر، وأحلاها ما تشبّث الله به واحتكره لفعل روحه. فرجائي أن تستحقّوا كونكم أبناء السادس عشر من اذار.

 

 

 

المشاركات الشائعة