كلمة احتفال عيد الحركة - عكّار 2004

رينيه  أنطون

بعنوان: الكنيسة الشاهدة


رغم أن الرداءة سمة من سمات هذا  الزمان، يبقى لفعل الله فيه علامات. ومن علامات هذا الفعل أن يعاين الناس أساقفة غاسلي أرجل  كذاك الأسقف الذي أنعم الله به على هذه الأبرشية. 

لا أبتغي من هذا أن أبجّل خدّامًا للكلمة وأن أجرح تواضعهم ، بل أن أوكّد إيمانًا بأن الظلمة، مهما تمادت في عالمنا ، ستحجب يوما بنور الله الساطع  من هذا أو ذاك من الرسل. وإن شئت أن اختصر لكم هوّيتنا الحركيّة ، ونحن نستذكر اليوم ذكرى انطلاقة الحركة، أقول أنها سعي للتمثّل برسولية نورانيـة تضيء  ظلمة الكون بنور خالقه.

الهوية الحركية سعي للتمثّل بمن أعطي أن  ينير درب البشر بالكلمة والجهاد. ولهذا نحن نسعى للتمثّل بمطلقي حركة الشبيبة الارثوذكسية في أنطاكية وبكلّ من سكبت عليه تلك النعمة. فليس الأمر لكون الشهادة للمسيح هي شهادة وجوه فقط، بل لكون مسعاك، في الكنيسة، أن تتلمذ على من تلحظ فعل الروح فيه، من خلال استقامة الفكر والممارسة والتواضع والابداع والتألّق. مسعاك أن تتمثّل فقط بمـن كانت قبلته الخلاص بيسوع المسيح فصارت قامته سدّا أمام تسرّب مفاهيم العالم الى الكنيسة.  باختصار،  مسعاك، في الكنيسة،  أن تتلمذ على الذين أحبّوا  بهذا القدر حتى عرف الناس  أنهم تلاميذه.

لا أشاء بهذا التعريف لهويّتنا أن  أفصل بين عالم الكنيسة ودنيا العالم. فشهادة الكنيسة هي في العالم،  وهي محقّقة بقدر ما يمسي العالم كنيسة. غير أن منطلق الشهادة أن يعي الكنسيّون أن ليس في كنيسة المصلوب منطق ما بين بين. فإما أن تكون مصلوبا مع سيّدك وإما أن تكون صالبًا له. والجماعة الكنسية جماعة شاهدة في مسيرتها  بقدر ما تعكس صورة المصلوب للعالم، وذلك لايمانها بأن قيامتها وقيامة العالم لن تتحقق إلا في الحبّ. وبتجسيد هذا الايمان تختصر أمانة الجماعة للسيّد.

فإن تنوّعت السبل لترجمة هذه الأمانة واختلفت اللغة الشهادية بين عصر وآخر، يبقى ما تختص به الرؤية الايمانية هو هو لكون يسوع المسيح  هو هو. وتبقى أولى سبل الترجمة هذه تمسّك الجماعة الكنسية بخصوصية رؤيتها، أيا كانت الأزمنة والظروف. إذ بقدر ما تجسّد الكنيسة رؤيتها في بناها وأطر شهادتها بقدر ما تساهم في تعميد العالم بها. فنحن نحيا اليوم في عالم محكوم بمفاهيم تتناقض، بالمطلق، والمفاهيم الكنسية. الأنـا والتسلّط والقوّة التي تروى بجشع المال وبانتهاك الكرامة الانسانية، وآحادية الثقافة والمرجع وتغريب الناس عن جذورهم وتاريخهم.  طبعا تشكلّ هذه المفاهيم تحدّيا لكلّ القيم الايمانية والانسانية، ومنها،  بالتأكيد،  قيمنا كجماعة الكنسية، إلا أن الرؤية التي سطرتها الكنيسة لعناوين مفصلية أساسية، منها عناوين السلطة والمال والحرّية والانسان، هي  التي تشكّل الردّ الأهمّ على المنطلقات التي تحكم عالم اليوم. ولذا نقول أن  الكنيسة، كلّما تسلّحت بتمايز رؤيتها،  كلمّا كانت كنيسة شاهدة للنور وسط الظلمة.

  

الحياة الكنسيّة

ففي الرؤية الكنسية، السلطة هي للمحبة التي تفتدي كلّ آخر دون أن  يذبح آخر أو يغيّب من اجل سلطة. وفيها إن المال يشيّئ لخدمـة الانسان دون ان يشيّئ انسان أو يسخّر من اجل مال. والحرية فيها هي حرّية تألّق وتعمّق وبحث في ما يخص الاله والوجود دون  مقاربة لاستهلاك أو تسفيه. والانسان فيها، أيا كانت معتقداته،  يكتسب قدسيته من صورة الله التي فيه، ليكون هو الغاية .

إذا لم يعكس الواقع الكنسي أمانة شديدة لهذه الرؤيـة، كان هذا  بسبب من وطأة التاريخ البشري على الوجه الملكوتي للكنيسة. ولأن الكنيسة جسد  تتناغم فيه الأعضاء  -لا عضو يتحكّم بالجسد -  لا يعفي انسانها نفسه من مسؤوليته عن واقعها وعن النهوض بكافة وجوه حياتها لتعكس هذه الحياة، يوما، الرؤية بأسطع صورة . 

فمن هذا المنظار نتحدث ونسعى لنهضة تطال وجوها من حياة الكنيسة وشهادتها.

نتطلّع لنكون جماعة تحيا كعائلة لله واحدة تحكم بينها المحبة. يجمع أعضاءها استقامة الرأي وصدق الممارسة. تتشارك الهموم وتشارك الخيرات. لا يبتغي عضو فيها بريق  بل يسعى الجميع ، فيها،  لتألّق الجسد لأنهم  يروا  فيه تألّقا للأعضاء كافة. ويعي جميع أعضائها أن لا تألّق للجسد إن بقي عضو عاجزا. تؤمن بأن الخدمة هي مقياس كلّ أولّيـة ولذا هي جماعة متحلّقة حول الأولّ فيها لأنّه أول قدر ما هو خادم.

نسعى لمؤسسات كنسية إن نظر الناس إليها عرفوا أنها للمسيح. لأنهم يرون بها واحة خدمة وشهادة ويرتجي الكنسيون منها سبيلا لخدمة بعضهم البعض وإطارا تتبلور فيه شهادتهم وخدمتهم وانفتاحهم على العالم. ولذا هي، اولا، المؤسسات المحمولة في ضمير الجماعة المدعومة من كلّ طاقة وإمكانية فيها. وهي المؤسسات الحاملة في ضميرها، أولا، فقراء الجماعة كي يتأهّلوا هم أيضا للشهادة. إن نسجت هذه العلاقة بين المؤسسة والجماعة باتت الجماعة  شاهدة من خلال المؤسسة وباتت المؤسسة عاكسة بأمانة لشركة الجماعة وهويّتها. فهذه العلاقة هي ما يحرّر المؤسسة الكنسية من خطر سيادة غير المسيح عليها. إن غابت سيادة المسيح فقدت كلّ خصوصية وإن فقدت مؤسساتنا خصوصيتها فلما تكون. إن لم تقرن فيها الخدمة بالرعاية، إن لم يتميّز فيها التعامل باللطف والتفهّم واحترام الكرامة الانسانية، إن لم يتميّز العاملون فيها بالكفاءة والعلم  المقرونتين بالسعي الايماني، فلما تكون؟

نرجو جماعة تعي ان لا ملكوت في السماء ما لم يبدأ من الأرض، فمحبة الله لها قد ترجمت فداء. هي تؤمن أن التطهّر بالله لا يدفع أحدا للترفّع عما يواجه الانسان من ظلم ومآس بل الالتصاق بالخطيئة، ذلك  لكون العدالة والحريّة سمتين من سمات الملكوت. ولذا الجماعة الكنسية المنشودة معنية في الصميم بقضايا العدل والحرّية،  تقاربها بخصوصية الرؤية الايمانية التي بقدر ما ترفض التنكيل بانسان من اجل آخر، تهتز وترفض أن تألف استباحة الدماء وقوافل الشهداء خاصة تلك النابعة، بغزارة، من أرض فلسطين والعراق. مسؤوليتنا أن نعلن الحقّ  لأننا نعرفه. فإن كان المسيح منتهكا بهذا القدر، في كل انسان هناك، يمسي كل كلام في غير الحق لغو.  

ننشد تفعيل الحضور الكنسي في صلب العصر وهمومه بما يبطل الايحاء بتناقضات أكيدة بين العلم والايمان. فإيماننا بأن كلّ أبداع هو من الله الذي أبدع الكون وما فيه لا يعفي علماء الكنيسة من مسؤوليتهم عن مقاربة الانجازات العلمية بقراءة ايمانية. خاصة تلك المتعّلقة منها بعلم الحياة والتي تسهم في طرح تساؤلات ثقيلة على ضمائر الناس لكونها تمسّ معتقدات أو تصوّرات ايمانية نموا عليها.

لا شك بأن هذا التفعيل المرجوّ يسهم أيضا في ازالة الكثير من الغربة القائمة بين شباب وكنيسته. كما أن التصاق الشباب بكنيسته يسهم في تفعيل حضورها في العالم. والأهمّ أن التزام الشباب لشؤون كنيسته هو سبيل لتحريره من أي ميوعة يمكن أن تعتريه. ذلك أننا نحيا عصرا يأفل فيه الالتزام، ايا كانت وجوهه، لتسود فيه التفاهة. ولذا فقد بات شأنا مرجوّا كثيرا أن لا تألوا الجماعة الكنسية جهدا لمساعدة هذه الشرائح الشبابية على تخطي الصعوبات التي تعيق التزامها. فمثالا، وإن كنا لا نرى في اللغة الطقسية السائدة الوجه الأهمّ لهذه الصعوبات بل أحد وجوهها، فإننا نعتقد بأن الولوج في إصلاح  لغوي يهدف الى جعل اللغة الطقسية عاكسة، بشكل أفعل، لما تنعم به قلوب الناس من أفراح ولما ترزح به من هموم وهواجس هو، اليوم، وجه هامّ من وجوه رعاية الشباب. 

أيها الأحبة

إن استحقت الجماعة الكنسية شهادتها وعكست مسيحها بأمانة أسهمت في خلاص ذاتها وخلاص النفوس لأن العالم، على قول يوحنا الانجيلي "يزول هو وشهواته، أما من يعمل بمشيئة الله فانه يبقى الى الأبد" (1 يوحنا 2 : 17).

 

المشاركات الشائعة