رأي في واقع رعائيّ

رينيه أنطون 

مجلّة النور-  العدد الثالث 2004


تُطرَح، إزاء تعدّد أطر العمل الكنسيّ في بعض الرعايا، آراء ومواقف تتعلّق بضرورة توحيد أوجه العمل وقنواته. وغالبًا ما تقود هذه الآراء إلى تأزّم العلاقة بين الهيئات المعنيّة والمجالس الرعائيّة القائمة. وحيث أنّ الرؤية لدى بعض المعنيّين، في هذا الموضوع، تتّسم بعدم الوضوح، فقد بات من الضروريّ جلاء بعض الجوانب المتعلّقة بهذا الأمر. ذلك لأنّ الموضوع لا يُحَدّ فقط بأبعاد العلاقة بين هذه وتلك من القنوات، بل يطال وجهًا أساسيًّا من وجوه الكنيسة هو تعدّد المواهب وتناغمها في خدمة الجسد الواحد. أضف إلى ذلك أمرًا آخر بات يُخشى منه كثيرًا على هذا الصعيد، وهو أن تستحيل بعض المفاهيم الدنيويّة مسلّمات يُستَند إليها لبناء التوجّهات الكنسيّة في هذا الإطار.

لا شكّ في أنّ تشويهًا حاصلاً في مفهوم الكنيسة ومفهوم الوحدة فيها يساهم، إضافةً إلى غيره من الأسباب، في هذه التأزّمات. ومردّ هذا القول إلى أنّ البعض يختزل، عن قصد أو عن جهل، مفهوم الكنيسة ليربطه، حصرًا، بالأسقف وبالكاهن وبمجالس الرعايا أو بغيرها من أوجه الجهاز الكنسيّ. وهذا الاختزال يقوده إلى حصر الهويّة الوحدويّة، في الكنيسة، بالعاملين في إشراف الإدارة الكنسيّة بشكل مباشر فقط. طبعًا يغيب عن هؤلاء الأخوة المفهوم الذي خطّه بولس الرسول للكنيسة بقوله: "فلو كانت كلّها عضوًا واحدًا فأين الجسد؟ ولكنّ الأعضاء كثيرة والجسد واحد" (1 كورنثوس 12: 19 – 20). كما أنّ آخرين، في الآن ذاته، يبالغون في تعميم مفهوم "الكنيسة" ليحوي كلّ من حمل هويّة أرثوذكسيّة، مؤمنًا كان أو غير مؤمن، ممارسًا كان أو غير ممارس، مهتمًّا كان أو غير مهتمّ، ليقيسوا، بعدئذٍ، سلامة الوحدة في الكنيسة وسلامة كلّ عمل كنسيّ بمعايير دنيويّة تُبنى استنادًا إلى هذه المفاهيم الخاطئة. فتسود تلك المعايير في الكنيسة أو تتساوى، في أحسن الأحوال، والمعايير الكنسيّة.

هذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على غياب الرؤية السليمة للعمل الكنسيّ لدى الناشطين في إطاره. وهذه حقيقة الأمر في أماكن متعدّدة. وممّا ساهم في إيصالنا إلى هذا الواقع تجاهل الأخذ بمواصفات الانخراط بأيّ عمل كنسيّ وبمتطلّباته لدى اختيار المعنيّين حيث كثيرًا ما أرخت أسباب ضاغطة بثقلها على هذا الاختيار.

ربّما الخطأ لا يكمن في "الحكمة" و"الرعاية" اللَّتَين كثيرًا ما ارتُكِز عليهما للتساهل في هذا الشأن، بل يكمن في عدم تفعيلهما بالمواكبة والتربية على المفاهيم السليمة لأيّ شأن كنسيّ. فغاب عن كثير من المعنيّين بهذا الشأن أنّ الكنيسة هي "بيت الله ووطن القدّيسين" حيث المسيح حجر الزاوية، "ففيه يُحكم البناء كلّه ويرتفع ليكون هيكلاً مقدّسًا للرّبّ، وبه أنتم أيضًا تبنون معًا لتصيروا مسكنًا لله في الروح" (أفسس 2: 21 – 22). لا رعاية ولا حكمة في الكنيسة ما لم تكتسب أهدافها من هذا التعريف، أي ما لم تمسّ غايتها مواكبة النفوس وقيادتها، تعليمًا وحياة، لتصير يومًا مسكنًا للإله في الروح. هذه الرعاية، إن وُجِدَت، هي التي تشرّع التوجّه الكنسيّ الذي يسمح لكلّ الناس، أيًّا كانت اهتماماتهم ومعرفتهم ومبالاتهم بالشؤون الإيمانيّة، بأن ينشطوا في الأوجه المؤسّساتيّة للكنيسة، وهي التي تؤول بهذا التوجّه ليكون مباركًا سعيًا لخلاص الكلّ ولعدم هلاك أحد. أمّا أن يُحصَر فعل "الحكمة" وتُحَدّ أهداف "الرعاية" بتطعيم الهيئات الكنسيّة بأوجه دنيويّة فقط، من دون أن ترعى هذه الأوجه بالمواكبة المطلوبة، فهذا ما يؤدّي إلى انتفاء الهويّة الكنسيّة عن هذه الهيئات لتستحيل، كغيرها، قنوات انتماء اجتماعيّ ووسائل إثبات وجود دنيويّ. في حين أنّ هويّتها الحقيقيّة هي أطر تعريف بحقيقة الإيمان وقنوات تقديس الذات.

فإزاء هذا الواقع، واقع اختلاط المفاهيم الدنيويّة بالمفاهيم الكنسيّة، يمسي من الطبيعيّ أن تتباين الرؤى حول ماهيّة الوحدة في الكنيسة، لتسمع انتقادات، حينًا، أو دعوات، حينًا آخر، قاسمهما المشترك تجاهلهما سمات الوحدة في الكنيسة. الأهمّ في الكنيسة هو وحدة الإيمان لا وحدة الأشكال كما في العالم. وحدة الإيمان هذه تجعل الكنيسة قائمة في كلّ خدمة تقوم ببركة الأسقف، منطلقها وغايتها الله، أيًّا كان المؤمنون القائمون بها وإلى أيّ هيئة انتموا. فليس تعدّد المواهب وتنوّع الخدمات هو ما يسيء إلى مفهوم الوحدة في الكنيسة، "لأنّ المواهب على أنواع وأمّا الروح فهو هو، وإنّ الخدمات على أنواع وأمّا الرّبّ فهو هو، وإنّ الأعمال على أنواع وأمّا الله الذي يعمل كلّ شيء في جميع الناس فهو هو" (1 كورنثوس 12: 4 – 6). أن تتعدّد المنطلقات والغايات، فلا يكون الله هو منطلق كلّ خدمة في الكنيسة وغايتها هو ما يسيء إلى هذه الوحدة.

بانتظار أن تتحقّق مشيئة الله ونرى الكنيسة في بهاء ونقاوة، ستبقى أوجه الضعف في العمل الكنسيّ أولى التحدّيّات التي تواجه الجماعة الكنسيّة، حيث السعي إلى خلاص كلّ نفس يبقى هو الغاية. فكما رعاية النفوس والتلطّف بها والصلاة من أجلها، كذلك التشبّث بالهويّة الكنسيّة، كلّها سبل لا بدّ منها لمعاينة هذا الخلاص. وسيبقى "الله في وسطها ولن تتزعزع".

 

 

 

المشاركات الشائعة