خدمة الحركة
رينيه أنطون
مجلّة النـور - العدد الأوّل 2004
الهواجس التي خيّمت على أعمال المؤتمر الحركيّ الرابع والثلاثين والمتعلّقة بدور حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة المرجوّ في المستقبل المنظور تظهر أهمّيّة العمل على توضيح أُسس العمل الحركيّ، مجدّدًا، وتفعيل الالتزام كائنة ما كانت خدمة الحركة المرجوّة. ولا تنبع أهمّيّة هذا الأمر من أيّ قلق على مصير الحركة الأنطاكيّة، فإيماننا أنّ هذه الحركة قامت بفعل الروح ولن تزول ما لم يشأ الله ذلك. غير أنّ الطرح ينطلق من ضرورة دفع المسيرة النهضويّة، بعد عقود من انطلاقتها، بالاتّجاه السليم على ضوء ما يمكن أن يكون قد واكب شهادتها من أخطاء وضعفات، ومن ضرورة تكييفها مع متغيّرات كثيرة شهدها الواقع الكنسيّ. عسى هذا السعي يساهم، أوّلًا، في تأهيل الحركيّين لتقبّل مشيئة الله وتفعيلها في حياتهم وحياة الكنيسة بشكل أفضل.
هذا الأمر يتطلّب إطلاق ورش تقويميّة حواريّة في مراكز الحركة وفروعها لتتأمّل، بتعمّق وجرأة، واقع العمل الحركيّ، على الصّعد المحلّيّة، على ضوء الأُسس التي ارتكزت إليها شهادة الحركة بالأمس، وترتكز إليها اليوم، ويجب أن ترتكز إليها غدًا. فإن اتّضح لنا اختلاف في أشكال التعبير عن التزام هذه الثوابت يكون هذا مقبولًا طالما أن أشكال التعبير لا تغيّر من ماهيّتها شيئًا. أمّا إذا اتّضح أنّ الوضع القائم يتناقض وهذه الأسس، وجب علينا جميعًا العمل لتصحيحه كي لا يساهم الواقع القائم هنا وهناك في تشويه مسيرة الحركة وتحريف أهدافها.
تراثنا، المكتوب منه وغير المكتوب، يبيّن بوضوح للذين لم يعطوا أن يواكبوا انطلاقة التيّار النهضويّ ونشأته أنّ الرؤية التي حملها هذا التيّار قد ارتكزت إلى أسس أهمّها:
حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة لا يمكنها أن تستحيل مؤسّسة أو جمعيّة كنسيّة. ذلك لكونها تيّارًا نهضويًّا اكتسب صفته ويكتسبها من شمول شهادته المدى الأنطاكيّ أوّلًا ومن ثمار هذه الشهادة وصداها الفاعل في أنطاكية والعالم الأرثوذكسيّ ثانيًا. وإن أمكن لهذا التيّار أن يتّخذ، من باب الحاجة إلى التعبير عن ذاته في نطاق مساحة ما أو إطار ما، أَوْجُهًا مؤسّساتيّة هنا وهناك تُسَخَّر في خدمة أهدافه وترتيب أولويّاته، فهذا لا يقتضي أن يغلب مفهوم المؤسّسة الضيّق على مفهوم التيّار العريض. ففي هذه الغلبة انتصار مرفوض للشكل على الجوهر، واختصار كلّ المدى الأنطاكيّ بمساحة التعبير المحلّيّة فقط، وانزلاق إلى الانزواء وضيق الآفاق. ورغم أنّ تكييف الأوجه المؤسّساتيّة مع روح التيّار هو إشكاليّة لا يسهل حلّها، ويعمل عليها الحركيّون باستمرار، إلّا أنّ هذا يجب ألّا يغيّر من حقيقة الأمور شيئًا. فحيث تسود المؤسّسة ويضعف التيّار يسود خلل يوجب علينا إعطاء الأولويّة للعمل على تصحيحه لأنّ هذا الخلل يبطل كون شهادتنا هي للكلّ ومع الكلّ.
ليست حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة فئة، في الكنيسة، بين فئات أو فريقًا بين أفرقاء. فثمار التيّار النهضويّ الشهاديّة على المستويات الكنسيّة المختلفة، وفكره المولود من رحم الفكر الكنسيّ، ونشأته في كنف الكنيسة، وسعيه، على ضعفاته، إلى تطعيم العالم بنكهة الكنيسة، تبطل كلّ محاولة لوصفه فئة أو فريقًا ليكون هو فئة الكنيسة وفريقها. إنّه فريق الكنيسة الذي ارتضى أن يملك يسوع المسيح على حياته وأن يسعى رغم ضعفاته، إلى تجسيد الكلمة المقدّسة حياة.
لم تعتقد الحركة يومًا أنّ هذا الأمر يحصر اكتساب بنوّة الكنيسة وفكرها النهضويّ بأبنائها حيث وجدوا. فهي تدرك أنّ كثيرين عرفوا الربّ وشهدوا له ولم تعرفهم الحركة وجوهًا فيها لأنّ الروح يعمل حيث يشاء، والحركة تفرح كثيرًا وترتجي فعل الروح الذي يروي كلّ عطش للإيمان بيسوع المسيح ويغذّي شلّال النهضة في كنيسته ويقوّيها. كما أنّها لا تعتقد أنّ هذا يُكسِب، بالضرورة، جميع أبناء الحركة صفة البنوّة والإخلاص لمسيرة الشهادة للمسيح، بل هذا ما يوجب عليهم السعي لذلك. فكما جرحت قلوب كثيرين بمحبّة يسوع المسيح، فترت هذه المحبّة كثيرًا لدى آخرين. لكنّ سعي هؤلاء الأبناء، إن وجد، - كسعي كلّ المؤمنين – لمقاومة الخطيئة الحاجبة وجه يسوع المسيح عنهم، كان سعيًا يجدر احتضانه ورعايته ومباركته. من هنا يمكن القول إنّ كلّ توجّه، أيًّا كان مصدره، للتعامل مع الحركة كفئة، كما كلّ ممارسة حركيّة تغذّي هذا التوجّه، يعكسان تغييبًا أو جهلًا لحقيقة ينبغي جلاؤها. هذه الحقيقة هي أنّ حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة لا ولم ترتجِ يومًا أمرًا لذاتها. فبهاؤها تستقيه من بهاء الكنيسة فقط، وحضورها تستمدّه من حضور الكنيسة فقط، وقوّة وجودها تنبع من فاعليّة وجود الكنيسة في حياة الكلّ وضمائرهم.
لم يعنِ الحركة يومًا أن تكون، في الكنيسة، وجهًا من أوجه السّلطة إزاء سلطة الرئاسة الكنسيّة، أو مرجعيّة كنسيّة إزاء مرجعيّة الرئاسة الكنسيّة. هي فقط حركة أبناء يعملون بإمامة رعاتهم ورعايتهم وفق رؤية الكنيسة الرعائيّة المستندة إلى مفهوم الكهنوت الملوكيّ. يسعى هؤلاء الأبناء، منطلقين من الرؤية النهضويّة الواحدة، إلى تشديد سعيهم وتنمية مواهبهم وتغذية وحدتهم، التي يرون بها سبيلًا لتفعيل وحدة الكنيسة، عبر التواصل بينهم ومع كلّ من يرغب بالتماس هذه الرؤية، متطلّعين إلى أن يعمّ هذا التواصل يومًا سائر أبناء الكنيسة السّاعين إلى خدمتها.
في خضمّ هذا السعي، علينا أن نتنبّه إلى أنّ خدمة الكهنوت الملوكيّ لا تستقيم ما لم تكن هي الخدمة التي تتناغم فيها مواهب الكلّ بإمامة خادم الجماعة الأوّل الذي يقود مسيرة الجماعة إلى القداسة والخلاص. ولهذا لا يجوز، بأيّ شكل من الأشكال، تحييد الراعي عن أيّ وجه من وجوه الخدمة. وعلينا، في الآن ذاته، أن ننبّه إلى أنّ هذه الخدمة لا تستقيم أيضًا إذا حُصِرت فيها المواهب وحُدَّت الطاقات بمن خُوِّل إليهم أمر أولوّية الخدمة في الكنيسة. فهذا الحصر يتناقض والتعليم حول الكنيسة المواهبيّة ومسؤوليّة كلّ من أعضاء الجسد عن صحّة الجسد بأكمله. كما يُخشى أن يغلّب هذا الحصر مفهومًا دنيويًّا للسلطة في الكنيسة يقزّم فعل الروح ويقود إلى أن تكون ممارسة السلطة غاية في حدّ ذاتها والتسلّط هو الوسيلة إليها. في حين أنّ الرعاية المجسّدة للمحبّة المطلقة للمواهب هي التي تعكس مفهوم الكنيسة للسلطة والمناقض لمفهوم العالم. فالسلطة في الكنيسة لا تستقيم بغير الانحناء أمام الجماعة لتتكشّف فيها المواهب ويكشف، عبرها، وجه الناصريّ فيكون للجماعة الخلاص. وهذا الخلاص هو وحده الغاية.
ليست الحركة مدرسة تعليم دينيّ. هي حركة شهادة ليسوع المسيح وحياة به. ولذلك لا يهمّ الحركة أن يحصر هذا التعليم بأطر التربية الدينيّة القائمة في رحابها، بخاصّة تلك المعنيّة بتربية الأطفال والفتية. فهي إن حملت يومًا هذا الهمّ حيث غاب الاهتمام به، وبمباركة الرعاة، فلإيمانها الشديد بأنّ نشأة الأطفال والفتية على تربية مستقيمة ترتكز على معرفة سليمة لإيمانهم تشكّل دربّا مهمًّا للوصول بهم إلى حبّ يسوع المسيح وكنيسته. همّ الحركة هو، من دون أن تدّعي أنها استطاعت دائمًا تحقيق ذلك، أن تستقيم التربية، وتصحّ المعرفة، أيًّا كان ناقلهما، استنادًا إلى إيمانها بأنّ التربية لا تستقيم ما لم يستقم المربّي والمعرفة لا تصحّ ما لم تصحّ معرفة المعلّم. فأينما تسمح الظروف بذلك ويطرق هذا الهمّ ضمير الجماعة كلّها، يجب أن يفرح الحركيّون وينخرطوا، كلّ بحسب مواهبه، في خدمته.
فإلى حينه، ورغم أنّ تعلّق بعضنا بالعمل مع الأطفال وانهماكه به يعكسان إخلاصًا وترجمة لالتزامه قضيّة يسوع المسيح، إلّا أنّ لهذَين الانهماك والتعلّق محاذير أهمّها ألّا يحجبا عنّا سعة الآفاق وشموليّة الهمّ. ذلك أنّ الفرادة التي طبعت مؤسّسي هذا التيّار والتي يجب أن لا تغيب عنّا هي، على قول أحدهم، "أنّ كلًا منهم كان يشعر بمسؤوليّته الشخصيّة عن كلّ الكنيسة بكلّ وجوه الخدمة فيها". فهل نهضة أنطاكية هي غير أن يشعر كلّ منّا بمسؤوليّته هذه؟
ألا أهّلنا الله لنكون على هذا القدر من الخدمة والفرادة، وأعطى الكلّ القدرة على الاستجابة لرجاء أخ لنا "بألّا ينظر إلى الحركة عبر سقطات أعضائها بل عبر توباتهم".