تقرير الأمين العام - المؤتمر الحركيّ 2004

رينيه انطون - المؤتمر 35


نشكر الله على نعمِه الكثيرة التي يسكبُها علينا. ومن نعمه هذه أن نلتقي معا  ساعين كي نعكس "الومضات الرائعة التي كُشِفت لنا" نورًا يشرق  في يومنا ومحيطنا. فنحن إن اجتمعنا او التقينا،  فلا نلتقي كي نستحضرَ أمجادًا ماضية أحاطت بحركتنا وكنيستنا لنتغنّى بها، لأن، والحال هذه، لا معنى للقائنا. نحن نلتقي لنتأمّل ونتشارك التفكير في ما علينا أن نسلكه في حاضرنا، أفرادا وجماعة، كي يتمجّد يسوع المسيح في كلّ وجه من وجوه حياتنا "فيعرف الناس بهذا اننا تلاميذه"، متشدّديـن بعضنا بالبعض وبذاك الضياء الذي انسكب على وجوه من سبقَنا وأنار ما أناره من جوانب، مظلمة كانت،  في حياة كنيستنا.

هذا الضياء يدلّنـا على أننا من أجل الكنيسة وُجدنا لا من أجل ذواتنا.  ولذلك لم نتطلّع يوما في هذه الحركة الى ما يخصّنا بل الى ما يخصّ الكنيسة. إيماننا  أن كلّ  تألّق  يُنعِم الله به علينا  هو تألّق  للكنيسة  بأجمعها لا تألّق لنا، وكلّ تألّق يُنعِم الله به على مواهب كنسية أخرى هو تألّق للجميع. يقيننا أن أي جمال يعكسه الكنسيون للآخرين إنما هو من جمال الله، وأي فعل خيّر يقدمون عليه إنما هو من خير الله.  فنحن لا نرى فضلاَ لأحد منا إلا في مدى كونه أهلاً ليفعل الله فيه ويرتاح. ومن هنا نرى أن استقامة الأمور تتجلّى في أن تفرح المواهب الكنسية بغنى بعضها البعض، لأن هذا الفرح، إن وجد، يعكس التناغم الحقيقي بينها في خدمة الجسد الكنسي الواحد.


الحضور الرعائيّ والعلاقة بالرعاة

وإن عكس الواقع الكنسي لنا، في بعض وجوهه، غير هذا الفرح، إلا أننا نشكر الله على وجوه أخرى تعكسه إما تناغما وتشجيعا وإما تفهّما. ولا يخرج اللقاء الأخير الذي انعقد بين صاحب الغبطة البطريرك أغناطيوس الرابع وشباب الحركة، عن هذا الاطار. فهذا اللقاء أتى تلبية لرغبة مشتركة انطلقت من إيمان غبطته بضرورة لقائه الشباب الكنسي والاستماع الى تساؤلاته. فمهما تعدّدت القراءات في هذا اللقاء، ورغم ان لقاء الأب بالأبناء لا يحتاج الى ما يبرّره، تبقى القراءة الأهمّ وهي أنه حقّ للشباب النهضوي أن يطمئنّ مباشرة، ممن أُنيطت به المسؤولية الكنسية الأولى، الى ما يخطّط له من أجل مستقبل أفضل لكنيسة التزمها. كما حقّ له الالتفاف حول غبطته لمناسبة مرور خمسة وعشرين عامًا على تولّيه السدّة البطريركية.

فهذه الالتفاتة الرعائية من الأب  نحو الأبناء والتفاتة الأبناء نحو الأب، إن تخلّلها توافق أو اختلاف، وإن حملت مدحا أو تأنيبا، تبقى هي المسار السليم الذي نرجو أن يسود العلاقات في إطار عملنا الكنسي في كلّ موقع.  فغياب هذه الالتفاتة في بعض الأماكن لا زال يعكس شيئا من التوتّر والتجاذب، ما حملنا على ايلاء هذا الموضوع اهتماما خاصا. ذلك لأن هاجس استقامة العلاقة مع الرئاسة الكنسية قد سبق وخيّم على أعمال مؤتمرنا الأخير، وأُتخِذت بشأنه بعض التوصيات، ولأن التعاطي مع هذا الهاجس، وهذا هو الأمر الأهمّ، بات تعاطيا مع شأن مصيري. فانعكاساته السلبية لم تعد تحصر بالمواقف وحسب بل تخطتها لتطال حريّة عملنا الكنسي وامتداداته في المدى الرعائي، وهذا ما يساهم في تشويه هويتنا وتقزيم وجودنا. ذلك لأن عدم تفهّم الرئاسة الكنسية لعمل الحركة ودورها في مكان، وسعيها الى ضبط التوجّهات الحركية وتقنينها في مكان آخر، قد ساهما، من جهة، في جعل بعض المؤمنين أكثر تقبّلا  لتهمة الفئوية التي نرمى بها، وساهم، من جهة أخرى، في دفع بعضنا، تلافيا لمزيد من التأزّم، الى التسليم العملي بحصر إهتماماته بوجوه العمل الحركي الداخلي فقط دون الحضور الفاعل في المجالات الرعائية والكنسية الأخرى. غير أن الأمانة للحقيقة تقتضي أن نشير الى أن هذا الأمر ليس هو السبب الوحيد لضمور الفكر النهضوي في بعض الرعايا والأبرشيات، إذ ربّما يكون لهذا الضمور اسباب أخرى تتعلّق بوافعنا الحركي الذي سنعود إليه لاحقا.

في هذا الاطار يهمّنا تأكيد أن لا شيء يجب أن يثنينـا عن التشبّث بحرّيـة أبناء الله و بما نحمله من همّ  ورؤى نهضوية نرى فيها تفعيلا لمعموديتنا في المسيح. فرغم الضعفات التي تعترينا، ومهما اختلفت الظروف المحيطة بنا، يبقى همّنا هو هو، أن نغرس في ذواتنا وفي شعبنا بذور الالتزام الحامل لهمّ كنيسة المسيح الواحدة والشاهد لسيّدها في كلّ وجه من وجوه الحيـاة. أن نوضح لبعضنا البعض ولشعبنا ما يقتضيـه التأهّل لهذا الالتزام من معرفـة لله عميقـة ومن سعي للالتصاق به عبر التزام حياة الكنيسة وقوانينها. أن نكشف لبعضنا البعض ولشعبنا محبة الله لنا، تلك المحبة التي تدعونا للاعتناء "بالجمهور" (القديس يوحنا الذهبي الفم، تقاريظ القديس بولس، الخطبة 7 : 6)  وبكل شان كنسي ليكون هذا الاعتناء دافعنا للانخراط الفاعل في كلّ الأطر الكنسية. أن نقدّم لشعبنا فسحات مشاركـة يتجلّى فيها مسيحنا كلّ يوم على رجاء أن تعمّ، يوما، المدى الكنسي كلّه. أن نكون من الوجوه الشاهدة لجمال المسيح وسط جمالات عالم اليوم.   

فلا أمر ولا موقف يجب أن يُلهيانا عن هذه الهموم ويُسهما في تغريبنا عنها دون أن يعني هذا أنه علينا أن نوفّر جهدا أو مسعى من أجل استقامة علاقتنا والرئاسة الكنسية. فما يؤلمنا في ما آلت إليه هذه العلاقة في بعض الأماكن، هو أن الاهتمامات الكنسية تتركز في غير محلّها.  فبدلا من أن يبحث بعض رعاتنا عن سبل تقنين دور الشباب العامل في الكنيسة حبّذا لو يسعون الى تفهّم هؤلاء الشباب وتوحيد الجهود معهم من أجل معالجة الأزمات العميقة التي تحيط بمسارات العمل الكنسي في غير مكان. وأبلغ ما يعبّر عن حجم هذه الأزمات وعمقها، والتي لا نعفي أنفسنا من المسؤولية عنها أيضا، هو الغربة الحاصلة بين نسبة كبيرة من الناس وبين كنيستهم، والتي تُترجم إعراضًا منهم عن الممارسة الليتورجية وعن الاهتمام بالشأن الكنسي، إضافة إلى ظاهرة انخراط عدد لا بأس به من الشباب الأرثوذكسي في العمل ضمن أطر متعددة خارج الكنيسة الارثوذكسية. 

لكن، بالرغم من غياب المبادرة على هذا الصعيد، ورغم قناعتنا بأن الأسباب الحقيقة لبعض المواقف السلبية منا تتخطّى كلّ ما يتعلّق بممارسة الأشخاص لتعود، أساسا، الى تباين عميق في قراءة لاهوت الأسقف في الكنيسة الأرثوذكسية - وما نلحظه من خلطٍ بين دور الأسقف كملاحظ للمواهب في الكنيسة ومشرف على عملها، وبين السعي لاختزال هذا المواهب وتقنينها في إطار مواهب الأسقف هو خير دليل - وبالرغم من أننا سطرنـا رؤيتنا لهذا الموضوع بشكل مسهب وواضح في رسالة وجهّناها الى المجمع الأنطاكي المقدّس تنفيذا لقرار مؤتمرنا الأخير، إلا أن هذا يجب ألا ثنينا عن بذل كلّ ما هو ممكن من أجل استقامة الأمور. فكنيستنا "مبنية على الأساقفة والقسس فيما يحملها الجميع" يقول المطران جورج خضر. (الحركة ضياء ودعوة ص 202).  

ما يساهم، من جهتنا، في هذا الأمر هو أن نعمل على تحرير علاقتنا بالرعاة من المزاجية والمواسمية والبُعد الشخصي عبر التأسيس للقاءات دورية تجمعنا، كقيادة محلّية، بهم لتكون هذه اللقاءات وجهًا من وجوه الرعاية المشتركة بيننا وبينهم، ولتُسهم في الحدّ مما يشعر به بعضهم من غربة غير صحّية عن مسارات العمل الحركي. هذه اللقاءات، التي تُسهم أيضا في الحدّ من الانعكاسات السلبية لأخطاء الممارسة لدى المسؤولين الحركيين أو لدى غيرهم، تهدف إلى التشاور معهم ومشاركتهم في جديد توجهاتنا  والاستماع الى ملاحظاتهم، ما يؤسس لعلاقة سليمة ومبنية على الوضوح والصراحة. 

أما الأمر الذي أراه قد بات ضرورة فهو أن نقرأ بشكل موضوعي المتغيّرات الكنسية التي شهدناها في العقود الأخيرة ومدى ارتباطها بوجوه الأزمة التي نتحدث عنها. فرغم أن وجود الحركة أو عدمه لا علاقة له أصلا بالمواصفات التي يحملها شخص المسؤول الكنسي، إلا أننا لا نستطيع أن نتجاهل كون العديد من مسؤولينا الكنسيين اليوم يتمتّعون بالعلم ويحيطون بالثقافة ويتحلّون بالنشاط الرعائي ويعيشون حياة الصلاة ويُشهد لهم بعفة الكفّ والنفس. ولكون تلك المواصفات هي من وجوه النهضة، وهذا ما جاد به الرب علينا في تاريخنا الحديث  بسبب تجاوب كنيستنا مع نهضته، فإن الأمر يفرحنا كثيرا ويشكّل لنا، في الآن نفسه، تحديا يلفتنا الى جملة من الأمور. أول هذه الأمور أن نرتقي بحياتنا الحركية لتلامس، على الأقلّ، بكافة جوانبها، كلّ تلك الوجوه. وثانيها أن نفرز ترجمة لرؤيتنا النهضوية أشمل وأعمّ مما هي عليه، اليوم وذلك عبر توّجهنا لأولويات جديدة. وما أراه من هذه الأولويات هو أن نتخطّى دائرة التوجّه الداخلي لنعمل على مشاركة الطاقات الكنسية المتوفّرة، العلمية منها وغيرها، في ورش عمل  تهدف إلى وضع مبادرات عملية هادفة لتحقيق مشاريع و إصلاحات سبق طرحها في أكثر من مناسبة وتختص بأكثر من صعيد، منها الأصعدة الليتورجية، الرعائية، التربوية وغيرها، لتكون هذه المشاريع في تصرّف رعاتنا تسهيلا لهذا الاصلاح المرجوّ. وإذا أبدينا، في هذا المؤتمر، تجاوبا مع هذا الموضوع،  فإن الأمانة العامة ستتوجّه في أولى اجتماعاتها القادمة الى بحث خطة عملية تتعلّق بهذا الشأن وضعها الأخ جورج نحاس بناء على طلبنا.


التواصل والوحدة 

إن دفع واقعنا الحركي للارتقاء إلى مستوى هذه الوجوه و التطلّعات سيُسهم كثيرا  في في أن نستحق فرادتنا.  لهذا لن أتوقف في قراءتي لواقعنا أمام حيثيات الحياة الحركية  اليومية  لكي لا نغرق في التفاصيل، ولأن رغبة الإخوة في الأمانة العامة هي أن نترك ما يتعلّق بالأنشطة وعمل المنسقّين للمؤتمر القادم. هذا علما بأننا قد خصصنا  في هذا المؤتمر وقتا لا بأس به لاستعراض الحياة الحركية في المراكز. لذلك سأكتفي بالتطرّق الى العناوين التي أرى للبحث فيها الآن ضرورة. ولكن، قبلا، لا بدّ من أن أؤكّد أن تطرّقنا لبعض وجوه الضعف في حياتنا الحركية ليس القصد منه أن نغيّب الوجوه المشرقة في مسيرتنا بل أن نجعل من لقائنا معا مصدر قوّة لنا وسبيل تعاضد بيننا سعيا لمزيد من الإشراق.  فنحن نشكر الله  دائما على معاينتنا الكثير من الاشراق في كلّ مكان. ويكفي أن نذكر كثافة  الجهود المبذولة في إطار الحياة الحركية لنشير، بما لا يقبل الشكّ، إلى استمرار الإخلاص لقضية يسوع المسيح في هذه الحركة وإلى  أن بذور الالتزام الكنسي لا تزال تنمو في نفوس شبابنا.

إن أصعب ما يواجهنا، في ظلّ توسّعنا الجغرافي، لا زال هو كيفية ترسيخ تواصلنا معا لضمان  سلامة رؤيتنا النهضوية. ولست أقصد بالتواصل الوجه الشكلي منه. فالتزامنا بالأطر التي تعبّر عن هذا التواصل بيننا، ومنها اجتماعات الأمانة العامة والمؤتمرات والحلقات، هو التزام جيّد. لكنّ ثغـرة تتوسع شيئا فشيئا نتلمّس بنتيجتها عدم كفاية هذه الأطر وحدها لترسيخ وحدة الفكر بيننا ما لم نؤمن حقا بأن شهادتنا الحركية المحلّيـة، مهما تعدّدت وجوهها، لا تستقيم -كترجمة للرؤية التي نحملها -ما لم تكن مُعمّدة بهواجسنا الكنسية والنهضوية الشاملة.  

السؤال الذي آن الأوان لنطرحه على ذواتنا هو: أهكذا هي فعلا اهتماماتنا الحركية المحلّية، اليوم، وهل هذه هي آفاقها؟ طبعا لا يكتسب الجواب عن هذا التساؤل صفة الإطلاق.  لكنّ ما نعاينه من غربـة لشبابنا، في أماكن كثيرة، عن مواكبة ما يتعلّق بعناوين كنسية شكّلت همّا نهضويا دائما، كالعمل المسكوني والمجالس الرعائية والقوانين والوحدة الكنسية المرجوّة وحياة الشركة، إضافة الى إهماله الاهتمام بالحضور الثقافي والشهادي في المدارس والجامعات والمجتمع، هو ما يدعونا الىالتساؤل حول هذا الموضوع، خصوصا وأن الأمانة العامة قد توجّهت دائما الى هذه العناوين لكونها تشكّل أولويات في هواجسنا النهضوية. وحين أتحدث عن الأمانة العامة لا أعني إطلاقا الحديث عن موقع ما في ظلّ تراتبية إدارية بل عن ذاك الاطار الذي يجمعنا معا من أجل قراءة متطلّبات السعي النهضوي وتحديد معالمه التي نراها جميعا ضرورية لتفعيل حياتنا في المسيح اليوم. ولذلك فإن الفصل الذي نعيش بين هواجس الأمانة العامة من جهة وبين مسار الحياة الحركية اليومية في المراكز من جهة أخرى هو فصل مرضي يقتضي العمل على معالجته سريعا. ولا أجد سبيلا لمعالجته ما لم يكن رؤساء المراكز ورؤساء الفروع والمرشدون هم المرآة التي تعكس، للإخوة، التزامنا بهذه الأبعاد. فأولى مهمّاتهم، كما أراها، هي تغذية تفاعل الأعضاء الحركيين مع كلّ ما تتمحور حوله وحدتنا، كجسم حركي، في المسيح. غير أن الاهتمام بمتابعة ما يتطلّبه العمل الحركي بوجوهه المحليّة القائمة يُشغِل هؤلاء الأخوة بما لا يدع لهم مجالا لدور فاعل على هذا الصعيد. وهذا ما يعثّر الوجه الأهمّ في مسيرتنا.

ولكون التغيير الجذري في ذهنية تعاطينا مع وجوه العمل الحركي المحلّي يتطلّب، مع الأسف، كثيرا من الوقت والنقاش، إذ يرى البعض منا أن شهادتنا لا تُستكمَل دون تكثيف الأنشطة المحلّية رغم ما تقتضيه من جهود وأعباء، ولكون هذا التغيير يقتضي مواكبته بتغيير في الأطر التي تجمعنا والنُظم التي نعمل في ظلالها، ما يستدعي أيضا مزيدا من الوقت والنقاش،  فإنني أرى لزاما علينا، اليوم، أن نسعى الى بدائل، وإن مؤقتة، تُسهم في تحقيق ما نبتغيه. وقد يكون من هذه البدائل، في حال انهماك رؤساء المراكز بالحياة الداخلية، أن تعمل الأمانة العامة على معاونتهم لتحقيق هذا التواصل وترسيخ تفاعل الحركيين مع هواجسها عبر توجهّها للحركيين مباشرة ودون المرور بالأطر التنظيمية القائمة. ولهذا أعود الى اقتراح سابق معدّلٍ بعض الشيء وهو أن يتمّ هذا الأمر عبر تخصيص بعض الإخوة لهذه المهمّة وإن اقتضت مهمة البعض منهم تفرّغا جزئيا او كلّيا. فيعمل مسؤولو المتابعة هؤلاء على نقل  أولوياتنا في الأمانة العامة الى الحركيين في المراكز عبر أطر تجمع أوسع شريحة ممكنة منهم، وفي مراكزهم، بحيث يُمكن للجميع مناقشة هذه الهواجس تمهيدا لالتزامها وترجمتها. كما يهتمّ هؤلاء الإخوة أيضا بما يقتضيه هذا الأمر من متابعة في المراكز على صُعُدٍ أخرى. ويمكن لهؤلاء الإخوة أيضا أن يساعدوا في تلبية متطلّبات  الأمانة العامة من المراكز خصوصًا تلك المتعلّقة بوجوه الوحدة بيننا كصفحة الانترنيت ومجلة النور وغيرهما. ومن المهمّ جداً أن أؤكّد هنا أننا لا نرى بديلا عن القيادة المحلّيـة لإدارة المسيرة النهضوية، بكلّ وجوهها، في المراكز والفروع، ولا نحاول أن نطرح بديلا منها. لكن نظرا لانعكاسات هذا الواقع الشديدة على وحدتنا إذ إنه يضع  وحدتنا هذه في خطر التقزيم إلى حدّ أن تكون وحدة شكل دون ان تطال وحدة الهواجس والتطلّعات، كان لا بدّ للأمانة العامة، كقيّم على سلامة الوحدة الحركيّة ، أن تطرح السبل الممكنة لتجنّب هذا الخطر.

وما أراه ممكنا أيضا على هذا الصعيد هو أن نبادر، بداية، الى تأسيس لقاء شهري يبحث في هذه الشؤون والأولويات، يجمع، إلى مرشد تسمّيه الأمانة العامة، ثلاثة من الجامعيين في كل مركز، على أن يكونوا من الذين يشهد لهم بالالتزام وبالقدرة على التفاعل مع الآخرين والتعبير عن آرائهم بوضوح. فإن ساهم هذا اللقاء في وصل أعضائه بهذه الهواجس، ونجح هؤلاء الشباب في نقل مواضيع البحث وتفعيلها، كلّ في  موقعه، يمكن لنا التفكير مستقبلا بتعميم هذه الخبرة على قطاعات أخرى.


حياتنا الارشادية 

هذا من ناحية. أما من ناحية أخرى فإن ما أخشاه هو أن يعود ضَعف حضورنا الثقافي والشهادي في محيطنا الاجتماعي، المشار إليه أعلاه،  إلى نقص في تربيتنا على الأبعاد الشهادية لإيماننا ارتكازا على قراءة إيمانية لا تعطي هذا الجانب الحيّز الكافي من الاهتمام. فإن صحّ هذا السبب أم لا فإن هذا الضعف لا يعكس رؤيتنا السليمة  لحضور الله  في حياتنا.  فإضافة إلى أن المطران جورج خضر قد سبق وأشار الى " أن العالم كلّه لا طائفتنا وحدها كان هاجسنا. لأن العالم رعيتنا وإليه نعدو من هنا، من أنطاكية" (الحركة ضياء ودعوة ص. 178) سطّر الأخ كوستي بندلي، في أحد مؤلّفاته، معالم هذه الرؤية في كلمات منها: رغم...."أن الأعمال التقوية كالصوم والصلاة هي مجالات مميّزة لحضور الله أو هكذا يفترض أن تكون إذا عيشت على حقيقتها، فإن الحضور الإلهي يشمل سائر مرافق الحياة وأبعادها، إذا لم تستبعده خطيئتي عنها. فمن أقام الله فيه، رافقه هذا الحضور الإلهي، سواء أكل وشرب أم لعب واستراح أم صادق و أحبّ أم تزوّج وربّى أولادا أو درس أو مارس مهنة أو تعاطى السياسة أو العلم أو الفكر أو الفنّ: "فإذا أكلتم أو شربتم أو مهما فعلتم، فافعلوا كلّ شيء لمجد الله" (1 كورنثوس 10 : 31) " (فتات من نور ص. 266). 

هذا ما يقودني الى موضوع البرامج المتداولة لأقول: أيا كان  الغنى الذي تتمتع به برامجنا التربوية  فإن هذه البرامج لن تستقيم ما لم تلحظ ما يربّي شبابنا على الأبعاد الشهادية لايماننا في العالم. ولا عذر لنا إن لم نقدم على هذا التوجّه خصوصًا وأن التصاق من سبقنا بهذه الأبعاد قد أثمر نتاجا غنيّا نقرأه في العديد من الكتب التي أصدرتها منشوراتنا والمقالات التي صدرت عبر مجلة النور. وأسفًا أقول إن كليهما لا يدرجان، اليوم، في صلب برامجنا.  كما يقودني هذا الأمر لألفتكم أيضا الى أن العملية التربوية، برمتها، لن تستقيم أيضا ما لم  يعكس المرشد، في شخصه، هذه الأبعاد الشهادية، وما لم تتخذ العملية الإرشادية منحى التعهد الشخصي لوجوه حياة العضو الحركي كافة بدل أن تكون مقتصرة في أحسن الأحوال، وكما هي الحال في كثير من مراكزنا، على منحى تعليمي مجرّد من هذا التعهّد.

فلا أقول جديدا حول محورية التلمذة، عبر التعهّد الشخصي، في العملية الارشادية. لأن هذا السبيل كان مسلكنا دائما للوصول الى ما نرتجيه من الشخص الحركي.  لكنني ألحظ أن الأزمة الارشادية، التي نعاني منها منذ سنوات عديدة، دفعتنا الى استسهال الحلول لتدارك انعكاساتها وملءِ الفراغات بما لا يخدم غايتنا من العملية الارشادية. غايتنا من الإرشاد  في الحركة هي أن نساهم في بناء الشخص في يسوع المسيح. بمعنى أن نساهم في ارتقاء كيانه الانساني كلّه، ارتكازا على الايمان، ليُترجم هذا الارتقاء صلاة ومعرفة ومشاركة وحضورا فاعلا في شتى مجالات الحياة،  وليعكس هذا الحضور شيئا من حضور المسيح في العالم. أما موقع الفرقة الحركية في هذه المسيرة فتكمن أهميّته في دورها كإطار تشارك فيه الجماعة في دعم تألّق الشخص، ويساهم الشخص من خلاله، في دعم تألّق الجماعة،على أن يتمّ هذا بإدارة المرشد الضابط لاستقامة هذه المسيرة والمتلمِذ على هذا الارتقاء بمعرفته وبما يُشهد له من ومضات على هذا الصعيد.  "فليشدّد بعضكم بعضا وليبن أحدكم الآخر كما تفعلون" يقول بولس الرسول في رسالته الى أهل تسالونيكي.

إن استسهالنا الحلول في هذا الاطار قد تُرجم إصرارًا على تكييف غايتنا من الإرشاد في الحركة بما ينسجم وواقعنا. وهذا ما جعل من استمرارية اجتماعات فرقنا الحركيّة، بغضّ النظر عن فاعلية هذه الاجتماعات والنتائج المتوخّاة منها، غاية تُسخّر لها مقوّمات الإرشاد السليم. فغاب التعهّد الشخصي، واُفتقِد تأثير المرشد في حياة الأعضاء، وبات بعضنا يتساءل من يرشد من في أماكن نفتقد فيها وجوها مؤثّرة وفاعلة في الحياة الكنسية والجسم الحركي. 

فمع كلّ التقدير للجهود التي تبذل وللدورات التي تعقد من أجل إعداد المرشدين هنا وهناك، فإنني لا أرى سبيلا للخروج من الحلقة المفرغة التي ندور فيها سوى أن نمتلك جرأة الاتجاه بعكس ما نحن عليه،  أي أن نُقدم على تكييف واقعنا وأطرنا مع يخدم غايتنا الارشادية. وما أرجوه، مثالا، هو إما أن نعيد النظر بهيكلية الفرق الحركية وبوتيرة اجتماعاتها الأسبوعية، حيث تقتضي الحاجة، لنضع هيكلية ووتيرة لها جديدتين تسمحان بأن تلتقي هذه الفرق طوال يوم أو نصف يوم شهريا حول مرشدين مؤهّلين لهذه المهمّة يستعان بهم من مراكز أو فروع أخرى، أو أن تقام هذه الاجتماعات الشهرية الى جانب الاجتماعات الأسبوعية القائمة. وأرى، في هذا السياق، ضرورة أن تضع الأمانة العامة، في تصرّف المراكز، لائحـة بأسماء المرشدين التي ترى فيهم الأهلية للتلمذة على الحياة في المسيح، وأن تتولّى هي معالجة ما ينتج عن هذا المسعى من أعباء والمساعدة في متابعة ما يقتضيه من ترتيبات. ذلك دون ان نتغافل عما يقتضيه هذا المسعى من تحلّي الإخوة المؤهّلين لهذه المهمّة الإرشادية بنفَس رسولي ساد حقبات من تاريخ حركتنا ولا زلنا نتمتّع بثماره ونعاينه في بعض الإخوة الى اليوم، ودون أن نتغافل أيضا عما يقتضيه من تحلّي المراكز والفروع بروح تعاضدية مسؤولة. فهذا الاحتضان بعضنا للبعض والمرجوّ أن يعمّ على جميع مستويات تعاطينا الفردي والجماعي، هو وجه من وجوه المحبة التي تغذّي وحدتنا في يسوع المسيح.

إن سلامة  التعاطي الإرشادي ستؤدّي الى تفعيل الوجوه الجهادية للحياة في المسيح كالصلاة والصوم والالتزام بحياة الكنيسة وقوانينها، وهي الوجوه التي تضمن، بحسب تعليمنا، إستقامة كلّ الوجوه الشهادية الأخرى. ورغم شعورنا بأن هذه الكلمات قد باتت مستهلكة في أدبنا الحركي، فإن هذا الشعور، بالذات، هو ما يستدعي مقاربتنا إياها في كلّ لقاء يجمعنا إلى حين أن نرى أن التزامها، وباستقامة، هو ما  يطبع مسيرة الحركة في كلّ مكان. فليس سرًّا القول أن تعاطي بعضا من شبابنا مع هذه الوجوه هو تعاط غير سليم لما نلحظه من إهمال لها عند البعض، ومن طهريّة وترفّع عن أي تماس مع قضايا الحياة عند بعض آخر ملتصق بها.  وبغضّ النظر عما إذا كان هذا التعاطي يعكس بعضا مما  يسود الساحة الأنطاكية من اتجاهات أو يعود الى ضعفات البعض وجهله،  يبقى ما علينا أن نعيه وهو أننا، في الحركة، غير معنيين بصلاة تحملنا على الانغلاق و الادانة والتصنيف، ولا بانفتاح  لا يرتجي مخاطبة الله منطلقًا لمخاطبة كلّ آخر. نحن معنيّون بما نقله لنا تراثنا النهضوي لأننا نعاين، في وسطنا، قامات حيّة ولدت من صلبه تنتصب أمامنا في كلّ وقفة صلاة وفي كلّ منبر للشهادة والحوار. ولعلّ هذا ما يلفتنا الى أهمية أن نستكمل نشر ما لم ينشر من تراثنا هذا، خاصة منه الأوراق الحركية المتعدّدة التي قاربت تلك الوجوه الرعائية، ليكون هذا النشر تسهيلا لمزيد من معرفة شبابنا له. هذا لا يجب أن يغيّب عنا ما بتّ أراه مهمّا جدًّا وهو ضرورة مشاركة الآباء الروحيين ومصارحتهم بما نتلمّسه من شوائب تعتري الحضور الرعائي لدى بعض شبابنا ومفهوم الأبّوة الروحية عنده، على رجاء الانخراط معًا في كل ما يساعد على تألّق كلّ منا في المسيح. 

أخيرا، إن شئت أن أشارككم بهذه الهواجس دون غيرها، فذلك فقط لكونها شكّلت هموما أولى لنا في الفترة السابقة، دون ان يعني هذا أنها تزيد أهميّة عن الهواجس الأخرى. فما أرجوه أن يُسهم تفاعلكم معها في تنامي ثقتنا بعضنا بالبعض، وأن يقودنا هذا المؤتمر الى أن تغرق نفوسنا  في المحبة لتعوم فيها علاقة كلّ منا بالآخر لأن لا خلاص لنا دون تلك المحبـة. 

وأختم بشكر الله على كلّ ما يعطينا، سائلين إيّاه تعالى أن يحفظ كنيستنا  وحركتنا بنعمته.

 

 

 

                                              

                              

                                                          

 

 

المشاركات الشائعة