أعمال المجمع الأنطاكي المقدّس: مشهدان وتساؤل.

 رينيه أنطون - 15 تشرين الأوّل 2025


١- مشهدٌ استثنائيّ جريء:

الدكتورة أسماء كفتارو، داعية اسلاميّة، مُحَجَّبة، تزرع البشاشة والسلام والانفتاح والاحترام حيث تحلّ، تُشارك في الجلسات المفتوحة أمام المتحدّثين، وتُلقي مداخلة في إحداها المُخصَّصة لشأن العلاقات الإسلاميّة المسيحيّة. والدكتور محمّد السمّاك، الاسم الوامض والحاضر في ذاكرتنا بكلّ ما يتعلّق بالحوار المسيحيّ الاسلامي، يُلقي مداخلة في الجلسة ذاتها، وقد أجابا فيها، مع الدكتور جورج تامر، على الأقوال التي "قوّلَت الاسلام ما لم يقله".

تشعُر أنّ المشهدَ، برسمِه وطروحاته، مرآةٌ للقِيم التي نشأتَ عليها في هذا الشرق، وتثمينٌ للتنوّع وغنى الانسان فيه. فتنفض ما راكمه، فيك، انفجارُ  كنيسة الدويلعة في دمشق، لتعودَ إلى ما حفَرته فيك كلمات الانجيل.

----------------------------------

٢- مشهدٌ ثانٍ مُكَمِّل، غير عاديّ أيضًا. علمانيّون يعتلون منابر المداخلات، والمجمع يستأنس بآرائهم في شؤون السياسة والاقتصاد والرعاية الاجتماعية والوجود المسيحيّ، والأخطار التي تتهدّد الكنيسة في زمن المحنة. وهذا بغاية "تلمّس خطّة عمل وتوجّه في ظلّ التحوّلات الكُبرى" حسبَ قولِ غبطة البطريرك يوحنّا العاشر، الذي رسمَ وأعدَّ المشهدين.

----------------------------------

٣- فهل يَسهُل تلمّس هذه الخطّة، والتوجّه، بالسرعة التي "تفتدي الأزمنة" ويرجوها الجميع؟

ليسَ من السهولة بالتأكيد، كما ليس من الصعوبة جدَّا. فالحاجة إليها لم تعد، برأيي، موضوعَ جدل أو خلاف وسطَ التحدّيات التي تفرضها خطورة  المرحلة على الكنيسة. فإلى اعلان البطريرك عن السعي إليها، أقرأ التوصية الصادرة عن المجمع في يومه الثاني، التي أشارت إلى ضرورة التعاضد "وتفعيل دور المؤمنين"،  كاقرارٍ بهذه الحاجة. وربّما ما يحتاج، بعد، إلى توضيحٍ وتحديدٍ هو ما تتضمنّه الخطّة من مواقف وتعتمده من سُبلٍ تجمَع بين الأبناء، قدر الامكان، ولا تتعارَض مع تعليم  الكنيسة وهويّتها ودورها في العالم.

وأولى التوجّهات المُساعِدة في قناعتي، هي ما يعالج الاختلاف والتباعد في الرؤى بين المؤمنين تجاه عناوين لا بدّ من أن تتمحوَر حولها أيّ خطوة تغييريّة كنسيّة في هذه المرحلة، وقاربَتها الأحاديث والنقاشات في المجمع. ومثالا منها:

------

أ-العنوان السياسيّ والوطني:

ففي سوريا، بعدَ التغيير، عبّر البطريرك، عبر عظاته ومواقفه، عن موقف الكنيسة المُختَصَر بـ "المواطَنة" الشاخصة إلى شركةٍ بين مواطنين، وليسَ بين طوائف. وأكّد المجمع  المقدّس على تبنّي هذا الموقف والالتفاف حول غبطته ومواقفه وتحرّكاته ولقاءاته. ويُدرك كلّ متابع لهذا الشأن أنّ هذا الموقف هو الذي يسكن ضميرَ الكنيسة، وقد أطلّت به عبرَ مجمعها وأعلامها في لبنان قبيلَ انطلاق الحرب منتصف السبعينيّات.

في لبنان، تختلف بعض الطروحات. يشتدّ حنينُ البعض من الأرثوذكس إلى ما ينقض هذا الموقف بدعوة، متجدّدة، إلى تأسيس هيئات كنسيّة  تُبرز "الحالة" الأرثوذكسيّة. ولا تسعى الى حِفظ حقوق الطائفة وحسب، بل تطالب بالمزيد. ويتوغّل هذا الحنين نحوَ إقحام الكنيسة بمشاريع تجاريّة، صناعيّة، استثماريّة الخ... بغاية تأمين التمويل اللازم لدعم حاجات الأرثوذكس، ويُمارِس ضغوطًا كبيرة  في هذين الاتّجاهين.

إنْ افترضنا أنّ اختلاف النظام السياسيّ ما بين سوريا ولبنان يفرض اختلافَ الحاجات، وصُعد المناداة بها، إلا أنّ أمرًا لا يفرض اختلاف المبدأ. فالمبادئ في الكنيسة، من الانجيل تولَد وليسَ من المصالح والحاجات. أضِف، كيفَ للكنيسة، إن شاءت التلبية، أن توفّق بين لفظِها الهويّة الطائفيّة لنظامٍ هناك، والانخراط في هذه الهويّة، حتّى العظم، هنا؟ وكيفَ لها أن تتبنّى ممارسةً هنا تُضعف موقفها هناك، أو العكس؟ والأهمّ كيف لها أن توفّق  بين الاختلافات العميقة بين أبنائها، في لبنان، إزاء المسار الطائفيّ؟ ومن تعبيرات هذه الاختلافات، مثالًا وليس حصرًا، مواقف حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة المبدئيَة، وجهات كنسيّة أخرى، والتي لم تُخفِ رفضها لهكذا دعوات عبر موقفها من "مشروع الهيئة المدنية" العام ٢٠١٢. كلّها تساؤلات تستدعيّ التوقّف، والاجابة.

--------

ب- العنوان الاقتصاديّ، والدعم الكنسيّ للأرثوذكس في حاجاتهم:

الكلّ يُجمِع على ضرورة تثمير الأوقاف، وايجاد سبل لزيادة المداخيل وتخصيصها لفقراء الكنيسة في أشدّ المِحَن. إلا أنّ هذه الورشة، إنْ اعتمدتها الكنيسة، تقتضي من السقوف ما يصون هوّية الكنيسة ومهمّتها الخلاصيّة وأدوارها الشهاديّة، وعدم الجنوح بحياتها نحوَ أولويّات أخرى نتيجة انخراطها في "مشاريع استثماريّة وصناعيّة وتجاريّة الخ....".

وأيضًا، وسطَ وسع التوجّه، اليوم، نحوَ الجمعيات غير الحكوميّة لهذه الغاية، وكثرةِ الاهتمامات والطروحات المتعلّقة بها، تبقى الحاجة إلى ما يصون مركزية التنشئة على الشركة والعطاء والتخلّي والتعاضد بينَ أبناء العائلة الكنسيّة الواحدة، خصوصًا في الأزمات، وكسبيلٍ أوّل. وكذلك ما يحفظ الخدمة المساعداتيّة للفقراء في بُعدِها الرعائي الحاضن والمُصَدِّر لكراماتهم في الضمائر. وهوَ أمرٌ مشهود في ساحاتٍ، ومنزوع في ساحاتٍ ومِن عقولِ كثيرين.

وأضِف، أوّلًا وأساسًا، كيف نحفظ عدم تخلّي الكنيسة عن دورها الأهمّ، وسطَ هذه الانشغالات، وهوَ المناداة "النبويّة" بدولةِ العدالة والحقوق الانسانيّة التي تحفظ كرامة الكلّ، وتلبّي حاجات الكلّ. إذ، وإلى المنطلقات الانجيليّة  لهذه المناداة، يُضاف منطلقات موضوعيّة أُخرى حيث ليسَ من بديلٍ عن الأنظمة العادلة وامكاناتها، وليسَ من أمان مجتمعيّ للأرثوذكس، أو لأيّ جماعة أُخرى، مهما بلغَ أمانها الاقتصاديّ، بغير الأمان الاقتصاديّ للجميع.

-------

ج- العنوان الرعائيّ:

 تتكرّر المطالبات، وبحقّ، بتنفيذ قانون المجالس والأبرشيّات بشكلٍ كامل، تحقيقًا لمشاركة المؤمنين. ولطالما طبعت هذه المطالبات خطابنا الرعائيّ في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، وأسّسنا أُطرًا رعائيّة لمتابعتها منذ عقودٍ خلت، ولسنوات.

لكنّ السؤال الذي يُطرَح، ودونَ ما يبرّر عدم التنفيذ، هل قانون المجالس اليوم، بعدَ ما لحقه من تعديلات سابقة، يحقّق فعلًا المطلوب؟

رأيي أنَّ جُلّ ما يحقّقه هذا القانون هوَ وجهٌ من وجوه "معاونة" العلمانيين للرعاة في الكنيسة، ليس إلّا. وهذه "المعاونة" هي ما وردت في تحديد مهامِ مجلس الرعيّة والمجلس المليّ، مُضافًا إليها صلاحيّة رئيس الأبرشية في حلّ المجلس الملّي.

وإنْ أضفنا إلى هذا، أنّ زمانَ إقرار القانون يعود إلى ما قبل خمسين سنة ونيف، وأنّه يحتاج، إضافةً إلى ما يصحح مفاعيله، إلى ما يجعله مقارِبًا لما صارت عليه تحدّيات الكنيسة واهتماماتها وحاجاتها اليوم، لوَصَلنا إلى أنّ تنفيذه، كما هوَ، ليسَ بانجازٍ، ولن يغيّر في واقع الأمور شيئًا.

لعلّ الانجاز المطلوب يكمن في ورشةِ تحديثٍ وتعديل للقانون، وتنفيذٍ مباشر بعدها، هذا إنْ نشدنا، فعلًا، المشاركة. وهذا مع تأكيدِ أنّ منطلقَ الدعوة لكلّ مشاركةٍ في الكنيسة هو التطلّع إلى ما به تتجسد عضويّة المؤمنين ويتجلّى رُشد بنوّتهم  ويمدّ الحياة الكنسيّة بحيويّة المواهبيّة الشركويّة فيها، وليس منطلقها تقاسم حقوق وصلاحيّات. وهو الأمر الذي قد لا يكون واضحًا لدى كلّ المُطالبين.

-----------------------------------

فهل من سبيلٍ عمليّ؟

ربّما، وهوَ أن تُتبَع جرأة رسم المشهدَين في المجمع  بجرأةِ اطلاق الكنيسة لورشِ عملٍ متابِعة، لكلّ عنوان ورشة، تنخرط فيها الطاقات الكنسيّة، بغاية التفكير واقتراح الأطر العملية وأُسس توحيد الخطاب والمواقف وتحديد السقوف وتقديم الاجابات ورفع اقتراح التعديلات في القوانين القائمة. ومعها، ورشة أُخرى لشؤون العلاقات الاسلامية المسيحيّة، لاقتراح أسس خطاب كنسيّ موحَّد تجاه المسلمين، وصُعد التعاضد المجتمعيّ الشعبيّ، الذي شدّد عليه غبطة البطريرك في أعمال المجمع، كحاجة ٍ مجتمعيّة لمواجهة تنامي التوجّهات الأصولية وانعكاساتها.

ويُمكن لهذه الورش أن تتأسّس، وفق سقفٍ زمني محدّد مُسبقًا، على صعيدٍ أبرشيّ لتصبَّ نتائجها في ورشة تنسيقٍ مركزيّة واحدة، برعاية البطريرك، تمهيدًا لرفعها إلى المجمع المقدّس، أو، مباشرةً، على صعيدٍ أنطاكيّ، بمشاركة مِن معظم الأبرشيّات. هذا عدا عمّا قد يراه البعض أنسَب.

فهل لنا أن نعاينَ متابعةً ما تثمّر تعبَ الاعداد لهذا المجمع الأخير، وما سبقه من مبادرات مِشابِهة، لتمتدَّ، بها، الحيويّة التي تظهّرت فيه إلى الزمن الكنسيّ الآتي، أم سترانا نراكم خطوةً، غير عادية، فوقَ خطواتٍ سبقَت وحسب؟