القويُّ بيسوع

رينيه أنطون -  3 حزيران 2025

                                                                 

أحقًّا أُصدِّق الإنجيل؟ هو السؤال الذي أطرحه على  نفسي كلّما عاينتُ ما يجمَع هذا التلميذ، المطران بولس بندلي، بيسوع المسيح. 

فالرجلُ أينما حضَر، أمامي، وكيفما حضَر، يُعرّي ضعفاتي. يعرّيها دونَ أن يقصُد، فإناءُ محبّةٍ هوَ، والمحبّةُ لا تجرح. إنْ استعدتُ بعضَ سيرته أو قرأتُ بعضَ عظاته يعرّيها. إنْ التّفتُّ إلى صورةٍ مِن صوره، التي تشخص إلى الناس كشخوص الأيقونات إلينا، يُعرّيها. ينتصبُ في ضميري، دائمًا، نبيًّا للعهد الجديد، لاهجًا بيسوع، صارخًا "صدِّقوا الانجيل وتوبوا"، فيما أراوح أنا في هشاشتي، مأسورًا لضُعفاتي.

ما في هذا الكتاب هوَ هذه الصرخة وحسب. صرخةُ راعٍ تقوّى بيسوع حتّى ظنَّ الناسُ قوّتَه ضُعفًا. عَشعشَ الفداءُ في قلبِه يومَ كان نابضًا، سكَنَت لدغةُ النبوّة في نبرَتِه يومَ كانَ واعظًا، وتوهّجَ ضياءٌ في وجهه يومَ سُجّيَ أمامنا راقدًا.  

بكلماتِه المنشورة في هذه الأوراق، بعناوينِها المتفرّعة ومواضيعها المتنوّعة، يَعِظُنا بولس بندلي بتعليمٍ واحِدٍ وحسب، بشوقِ الألوهَة إلى وجوهِنا في السماء، أيّ بالقيامة. فَسِرُّ المسيح، الساكن هذا الرجل، كشفَ له أن الألوهَةَ هي هذا الشوق إلينا. هي الاشتياق الذي غمرَنا احتضانًا وفداءً، وأهدانا حياةً أبديّةً، يومَ عن الله بَعُدنا.

لهذا، بعِظاته هذه، يدعونا بولس بندلي إلى أن نحقّق رجاءَ الربّ، ونعود إلى السكنِ في عَرين القداسة في السماء. وهذا ليسَ لأجل الله، بل لأجلِنا، لأجل ألّا تبقى دمعةٌ في عيوننا وغمٌّ في قلوبنا وظلمةٌ في نفوسنا. ولأجل ألّا نشهد موتًا، بَعد، ونَنسلخ عن أحّبتِنا.

هي دعوَةٌ تأتينا بلغةٍ تعكُسُ ما في هذا الراعي مِن سماتِ يسوع. فنراها لغةً مخمَّرة بالبساطة، لا إدانةَ فيها، ممزوجةً بالحبّ والّلطف والتفهّم. تَصدُر من القلبِ وليسَ من الشفاه. تسلُك إلى أعماقنا لتمدّها بنورِ الإنجيل وتحرُق فيها الزؤان. لغةٌ تترجّى أن نستذوقَ، كأبناء، نكهةَ الألوهة التي فينا، لنقبَل دعوةَ مسيحنا ونَحظى بالمزيد.

بتعبيرٍ آخَر، يرسم لنا المطران بولس، في عِظاته، خارطةَ خلاصنا. يُخبرُنا أنّ طريقَ الخلاص قريبٌ منّا وليس ببَعيد. لا بل أن الطريقَ فينا، لأنَّ المسيحَ فينا. فالمسيحُ يَسكن قلبَ حياتنا، ينتظر أن يَشعَّ ضياؤه في وجوهِها إنْ نَفَضنا عنّا الخزفَ المكسور وأزَحنا ركامَ الخطيئة. وهذا ليسَ بصعبٍ علينا، إذ أنَّ سبيلَه واحدٌ وسَهلٌ، وهوَ أن نصدّقَ الإنجيل "الذي كًُتِب لنؤمن ونصيرَ، نحن، أناجيل".

سبيلُه أنّ نصدّقَ حقيقةً وقَلبًا وكيانًا، وليسَ تردادًا وادّعاءً، أنّ الطفل الذي وُلدَ في بيتَ لحم هو المسيح الإله، وأنّ ذلكَ الذي رُفِع على خشبةٍ وَسْطَ لصّين "في مكانٍ يُقال له الجلجلة" هوَ، هوَ، الابنُ المصلوب حبًّا بنا، وأنّ القبرَ الفارغَ، وِجهَةَ النِسوة ذلك الفجر، هو قبرُه. وأنَّه حقًّا قام. وأنّه هوَ مَن ظهرَ للنسوة والرسل. وسبيلُه، أيضًا، أن نصدّقَ أنّ الكلامَ الذي نُقل إلينا من أفواه الرُسُل هو كلامُه، وأنّنا، إنْ أردنا، قادرون، بقوّته، أن نعبرَ الموتَ ونَقوم. وهذا يكون بِسعينا إلى أن نسلكَ بموجبِ وصاياه التي نَقلَتها لنا سطورُ الإنجيل.

فبولس بندلي، الراعي، الذي عايَن من الله ما عايَن، واختبرَ من تلك السطورِ ما اختبَر، وعاشَ مِن كلماتها ما عاش، يُدرك أنّنا إنْ صدّقنا، حقيقةً، الإنجيل عِشناه، وأنَّ حروفَه، إنْ سكَنَت عيونَنا، قلبَت داخلَنا وأطلَّ جمالُ الإله من أعماقِنا ليردمَ فينا الضَعفَ والهشاشةَ وبشاعةَ الخطيئة، ولا تعود لنا شدّة غير تلك التي تُعيق خلاصنا. فلا يعود الحزنُ، فينا، حزنًا، ولا الجوعُ جوعًا، ولا العطشُ عطشًا، ولا التعبُ تَعبًا، ولا الهمومُ همومًا، ولا الشوقُ إلى وجوه الأحبّة، الذي يجرح أعماقَنا، شوقًا. فهذه كلّها تصيرُ ومضةَ المصلوب فينا، وفِراشًا نَغفو عليه يومًا لنقومَ في فرحِ وجهِه إلى الأبد.

بهذا الهاجس الذي سكنَه، هاجسُ خلاصِ الأبناء، خاطَبنا بولس بندلي بتعليم الربّ في هذا الكتاب، مُمَهِّدًا بأنّ التعليمَ، في ديانة التجسّد، هو الذي كُتِبت سطورُه بالعيش، وأنّ الواعظَ هوَ الذي يَعيش ما يَعِظ. الواعظ هوَ الذي يجاهد لئلّا يَسقط حرفٌ من حروفِ وعظه مِن حياته. هوَ الذي يُلازمُه هَمُّ أن تتجّذَّر الكلمةُ في النفوس، وليسَ أن تُثيرَ فصاحةُ وَعظِه الإعجاب. وهوَ الذي يعرف أنّ طُرقّ الكلمة الإلهيّة إلى أعماق الأبناءِ هي عِبرَ همومِ حياتهم ويوميّاتها، إذ بهذا تكونُ لهم الراحة، ولأحزانهم العزاء، وتزيل من أمامِ خلاصهم العثرات والصعوبات.

شاءَ المطران، بتمهيده، ألا يُغَرِّب أحدٌ الله، في منابر الوعظِ، عن همومِ شعبه، وألّا يَظنّ أيٌّ مِن الناس أنّ سعيَه إلى تلبية حاجات العيشِ والتخفيف من مصاعب الحياة يُغضِب الربّ ويُبعِدُه. فهمومُنا الحياتيّة لا تُغضب المسيحَ بل تُشغِله معنا. وضعفاتُنا الإنسانيّة لا تُبعِده عنّا بل تؤلمُه، وتزيدُ من إصراره على تحريرنا منها وممّا يعيق قداستنا. وهوَ، أي المسيح، لمّا وُجِد هنا معنا، كانَ هذا لأجلِنا وليسَ لأجل تأنيبنا أو لغضبٍ منّا.

وتأكيدًا على التلطّف الإلهيّ بنا، يذكّرنا المطران بولس بأنَّ السلالةَ البشريّة، التي انحدَرَ منها المسيح، واختارَ منها العذراء الطاهرة أُمًّا له، لم تَكن كلّها حسبَ ما يشتهي إلهُنا. وتذكيرُه، هذا، ليس بغايةِ أن نرتاحَ لخطيئتنا، بل بغايةِ أن ننهضَ من كلِّ سقطةِ يأسٍ، ونتشدّد بكونِ محبّة الربّ هي معَنا في جهادنا مترجّيةً أن نتخلّص من لذّة الأهواء لنحيا في "فرحِ ضمَّته لنا على الصليب".

إلى هذا، ينشغل هذا الراعي، في عظاته، بألّا يُبعدنا تصوّرٌ بشريّ ناقصٌ عن الله عن ذلك الفرح المرجوّ. فنراه يوضِح أنّ الله هوَ كما هوَ، أيّ الإله الحقّ، وليس هوَ الذي نَحن نريد. وأنّنا، إنْ شعرنا مرّة وأخرى بالخذلان، لعدمِ مجاراته لنا بما نرغب، فذلك ليس لتجاهله لنا بل لكوننا نجهَل ما فيه، حقيقةً، خلاصنا. فهوَ الإله الذي عَجن آلامنا بآلامه على الصليب لتَبطُلَ سببَ يأسٍ ولتصيرَ سبيلَ رجاءٍ وقيامة. هو الإله الذي ينتظر أن نطلبَ الغفران، ليسارعَ، دونَ ريبٍ، إلى أن يغفر لنا خطايانا. هو الاله الشغوف بحرّيتنا، الذي يقترب منّا إنْ شئنا قربه، ويبتعد عنّا إنْ شئنا بُعدَه. هو الإله الحنون الذي يَسكُب النِعم علينا ويغرس الوزنات فينا وإنْ لم نُسكنه في قلوبنا. هو الإله الذي لا يُشغِلْه أن يُعبَد هوَ بل أن ننهضَ نحن، الإله الذي تكمُن مصلحتُه في خلاصنا. هوَ الإله الحياة الذي طلبَ غريبٌ جسدَه الميت لينال منه الحياة. وهوَ الإله المُنتَظِر عبورنا عتبةَ الموت لنحيا في ضياء ألوهته محرَّرين، نفوسًا وأجسادًا، مِن ثِقل الخطيئة.

بهذا الكتاب جالَ بولس بندلي في أحداثِ الإنجيل وأمثاله ليقدّمَ لنا الربّ، كما كُشِف له وتذوَّقَه، أطيبَ من المياه، دونَ أن يبتعد، في جولته، عمّا شغَلَه هوَ من أولويّاتٍ إيمانيّة إنجيليّة في الحياة. فلكونه الراعي الذي التصقَ، في الأرض، بالمُهمَلين والمُحتاجين ذكّرنا بهم مكانًا، لا يُحاد عنه، للقاء مسيحنا، مُستحضِرًا أمامنا شفاء المُخلَّع، المُهمَل من الناس، ودينونة الناس الهاملين، وناصِبًا في عيوننا لوحةَ ملكوتٍ لا حجارة فيه، ولا ذهب ولا أصنام، وإنّما كنوز أحياء.

ولكونه الكاهن والأسقف الذي وصلَ لياليه بنهاراته في إقامة الخدم الكنسيّة والصلاة، وعظَنا بها، وبالترداد إلى الله في بيته لنألفَ لُقياه ولُقيا الكلّ في وجهه. ولكونه الكاهن الذي وصلَ لياليه بنهاراته في الاستماع إلى اعترافات الشباب، والأسقف الذي ركعَ أمامَ كاهنٍ والملأ معترفًا طالبًا الغفران، لم يهمس بنا هذه المرّة، بل صرخَ بأنّ الخطيئة، فينا، برصٌ روحيّ يشوّه إنسانيّتنا دواؤه الاعتراف.

يقيني أنّ ما شغَل بولس بندلي في هذا الكتاب مِن تسهيلِ طريق الخلاص أمامنا هو خطوةٌ، لا تقلّ عمّا سلكَه من خطوات خطاها في الحياة، إلى حيث استحالَ واحدًا من تلك الكنوز الأحياء في السماء. والشكر لله، دائمًا، على عبور الرسل بيننا.