البيت السرّ

رينيه أنطون - 15 تشرين الثاني 2025


أمس، في طريق مغادرتي لاجتماعٍ  في بيت الحركة، الميناء، صادفتُ مجموعةً وافرة من العائلات تلتقي في اجتماعَين. تتنوّع مواهبُ أعضائها وقدراتهم الشخصيّة والعلميّة والثقافيّة وأحوالهم ومِهَنِهم وقناعاتهم السياسيّة والمجتمعيّة. 

منهم العريق في انتسابه والتزامه، ومنهم العائد حديثًا من المهجر، بعد عقودٍ، متقاعدًا، ومنهم المنتسب إلى المسيرة "كبيرًا"، ما بين أمس وقبله بقليل. وأيضًا، منهم مَن تشغل الكنيسة والحركة بيته وأوقاته وهمومه، ومنهم مَن تسكن هذه وتلك جزءًا من اهتماماته، ومنهم مَن بدأت الأمّ الكنسيّة وابنتها تحتلّان مكانًا لهما في هواجسه. 

وفي تفرّعاتهم واختلافاتهم، والأمر ليسَ بالشأن البسيط، تراهم مجتمعين في فرحٍ واحد وسلامٍ واحد، واصغاءٍ واحد، وتثمينٍ، بعضهم لبعضٍ، واحد. تثمينٌ لا تدلّك إليه الوجوه ُوشخوصُها وحسب، وانّما انتظام اللقاءات والانضباط بها أيضًا رغم انهماكات الزمن وشائكيّة الظروف.

في الطريق، أعادَني المشهد إلى مشاهدٍ مشابهة، مزمنةٍ، في البيت ذاته، وإلى وجوه الخدمات الخفرة والمجانيّة فيه، وإلى السببِ في هذا، السببِ في ما يشدّ الأخوة، ليسَ إلى أن يلتقوا حولَ موضوعٍ وقضيّةٍ أو وجهًا إلى وجوهٍ، بل إلى حيثُ الشغفِ بأن تبهُتَ وجوهُهم لتتألَّق بدلها وجوه. 

أعادني المشهَدُ إلى سرّ هذا البيت وما يتغلغل في الأنفاسِ من روائح جدرانه. جدرانٌ بُنيَت ليسَ بحجرٍ، بل بما يصون النفوس من زلازل الخطيئة. عُمِّرَت، هيَ، بجبَّةٍ مهترئة كانَت أجملَ الزينات وأصلَبَ في المحبّة من الصخور، وبجسدٍ هشّ كانَ يقتات من الركون في الخَلف، اشتهاه الروح، يومًا، مخدعًا للنبوغِ في حياكةِ قصّة الحياة والانجيل، وبصوتٍ كانَ يرعُد بعيبِ ألا نكون في الكنيسة على بهاءِ المسيحِ، والعالمُ عرشًا له، والفقيرُ واليًا، هنا، في مملكته.

أعادني المشهَد إلى سببِ أنّكَ كلّما دخلتَ هذا البيت، ناداكَ صوتٌ إلى أن ترحَل من ذاتك إلى حيث تصير مادةً، كتلكَ، من مواد جدرانه، وتسكُن فرحَ الاحتجاب "الثالوثيّ" الراشح منها. 

صوتٌ، فيه من السحرِ ما لا يُصَدّ، ومن الدعوات ما لا يسهل تلبيته. الحركة، في خلاصتها، انسحارٌ بهذا الصوت وسعيٌ إلى هذه التلبية، وعومٌ في الرجاء.