في رُقاد الأخ ديمتري سمعان

 رينيه أنطون - 21 أيلول 2025


صوتٌ أنثويٌّ يعلو في أحد مؤتمرات حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، يتخطّى سقوفًا اعتدناها في بداية حياتنا الحركيّة. صوتٌ يتحدّى المؤتمرين بإقرار الخطوات الجريئة، والشبابَ بإثبات جدّيّتهم وأهليّتهم ومعرفتهم. وعلى حدّته وجرأته، كان صوتًا محبوبًا، يستقطبُ الإخوة ويطبعُ على وجوههم بسماتِ رضا وثناء.

بعد حين، صوتٌ آخر يُسمَع، تسكنه بحّةُ احتضان، ينظم المواقف والتعليم في قالبِ لُطفٍ تنشدّ إليه القلوب أوّلًا، لتعبر الكلماتُ منها وترسخ في العقول.

كنتُ حينها شابًّا في مطلع العشرينيّات من عمري. في هذا المؤتمر، وللمرّة الأولى، عرفتُ ميّ خوري وديمتري سمعان: صوتَين، مرآتين لموهبتَين جمعهما الله في حبّ واحد، وإيمان واحد، وورشةِ خلاصٍ واحدة، سمّاها الروحُ حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة. في هذا المؤتمر بدأ الزوجان شيئًا فشيئًا يعتليان في ضميري مكانةَ الذين “استحالوا رموزًا، تلتحم صورةُ الحركة بصورتهم في الأذهان”.

نصب الاثنان سرَّ الجماعة وسطَ عهدهما، وأعلناه محورًا لحياتهما. رشحا من عطر إلهنا ما ينعش الروح، ويحرّك في النفس الركود، ويزرع حيث يحلّان جذورَ جمالٍ في المكان. عشقا أُلفةَ الأبوة والشركة في الأديار، وانشغلا بثالوث التربية والشهادة والانفتاح، ولم يغفلا عن هموم النهوض والرعاية والوحدة في حياة كنيستهما. كانا يعلمان ويُعلّمان أنّ التزام هذه الهموم هو أوّل ما ترنو إليه الحركة في تربيتها وتنشده في أعضائها، بل هو الأساس الذي يُبنى عليه، في منظورها، كلّ انهماك آخر بقضيّة المسيح. فأولى ديمتري وميّ هذا الأساس ما يتطلّب من جهد وتخصيص، حاجّين باستمرار، رغم طول المسافات، إلى حيث ترتسم في الحركة وحدةٌ بديعة الألوان والخبرات والوجوه، ويغمر فرحُ الشركة النفوس، وتتصدّر الرعاية في الكنيسة الهموم. وفي يوميّاتهما أبدعا التكامل بين ما اعتمداه من صُعُد الشهادة والالتزام.

وبعد أن نال المرض من جسد الشريكة، تابع ديمتري من الأرض، وهي من فوق، تلبيةَ تكليف الربّ لهما.

واصل الشيخُ الحفرَ في ورشة الخلاص، متحلّيًا بخبرةٍ مُختمرةٍ بعرق الجهاد، نافذًا بالمسيح إلى قلوب ونفوس وعقول الأجيال. وفي المسار، حيث كان يشعر بخطرٍ يتهدّد النهضة في مكان، كان يسارع إلى نقش اتجاهاتها في العقول. وحيث كان يشعر بما يشوّه الربّ من ضيق في الآفاق، كان يسارع ليخطّ مطارحَ الشهادة لوسع الفداء وسيّده في العيون. وحيث كان يشعر بخلافٍ يُحزن الله، كان يتمايز، وهو في ضفّة الحقّ، بقدرة استيعاب وطَلّةِ صبرٍ وحِفظ المحبّة ومطرحِ حوار. ورسوليّة الروح، صفةٌ لازمته حتى الرحيل، فاعتلى بها في العيون كرسيَّ أوّل الواصلين باكرًا، من أبعد مكان، إلى حيث اللقاء، أينما كان.

الأخ ديمتري سمعان كبيرٌ في المسيح، تكلّلت مسيرته بطاعةٍ كانت، ومع الوداعة، سبيلَ صاحبها إلى أن “يَنقُص هوَ ويزيد المسيح”.


يبقى أنّ لحظةَ أُخبِرتُ برقاده، حضرتني الواقعة التالية:

منذ نحو خمسة عشرة سنة، قادني ظرفٌ إلى العودة من حلب بعد منتصف الليل، معتمدًا وسيلة النقل التي لطالما اعتمدها الأخ ديمتري والأخوة هناك للمشاركة في اجتماعات الأمانة العامة للحركة ولقاءاتها. فاستغرقت العودة، مع محطّات الطريق، أكثر من ست ساعات، بما اقتضته من إرهاق جسديّ كبير.

منذ ذلك الحين، وأنا أنشغل بسرّ تلك القوّة التي كانت تسمح لشيخٍ يفوقني عمرًا بالقيام بتلك الرحلة بشكل دوريّ، شبه شهريّ أحيانًا، ذهابًا وإيابًا في اليوم الواحد، لضرورات اجتماع لساعات، مع التحلّي بحضورٍ حيويّ في الاجتماع.

وكلّما تقدّمت الأيّام وفاقمت الحرب السورية من صعوبة الطريق وطولها وخطرها، وزادت معها شيخوخةُ الأخ ديمتري وإصراره على التردّد إلى لبنان، وإن لأيام قليلة، وتشوّقه لجلسة نقاشٍ وتبادل رأي في قضايا الحركة والكنيسة مع هذا الأخ أو ذاك، كان انشغالي بالسرّ يزداد. حتى جاء اليوم الذي فيه أيقنت الجواب: أدركت أنّني أنقص كثيرًا ممّا شدّ قوّة الروح لتفعل في الأخ ديمتري وتستريح، ومن ثقته بوعد المسيح التي مدّته برجاء يمسح تعب الجهاد، مهما بلغ، عن الأجساد .

لهذا، لا أرى الأخ ديمتري اليوم راقدًا في قبر، بل أشهده متنقّلًا في رحاب السماء، ناشطًا لخدمة قضيّة خلاصنا باستدعاء شفاعة القدّيسين لنا، وبالصلاة.