زياد الرحباني
رينيه أنطون - 27 تمّوز 2025
منذ نحو ٥٠ سنة، في
"نزل السرور"، التقينا زياد الرحباني للمرّة الأولى، وقد صارَ حرفًا من
حروف يوميّاتنا وركنًا من أركانِ حياتنا. لا بل التقينا الذي سكنَ، منذ ذلك
الزمان، ضمائرَنا ونبضَت به شرايينُ قلوبنا.
في ذلك "النزل"، كانت سخريّةُ الرَجل أساسًا إليه ارتكزَت
خطيئةُ شبابنا، خطيئةُ ظنّنا أنّ الحرب، الآتية، في بلدنا هيَ بابُ الولوجِ إلى ما
ننشده في غدنا. وفي الاذاعة، خلال الحرب، كانَ صوته الغذاءَ اليوميّ لما اعتقدناه،
يومها، نشوءًا ونموًّا للوعيِ فينا.
حينها، لم نكن ندري أنّ زياد يسخَر منّا وليس من سلطةٍ وزعماءٍ ونظامٍ، كنّا
نُسقِط عليهم أسبابَ مآسينا. كنّا نجهل أنّ زياد يخاطبُ خنوعَنا نحن، وجنونَنا
نحن، واستذواقَنا، نحن، لجلّادينا وكلّ ما يجرح الوطن والانسان والكرامةَ فينا.
كنّا لا ندري أنّه كانَ يبكي كلّما كانَ يُضحِكُنا على كَم وكَم مِن الجَهل فينا.
يُخطئ مَن يظنّ أنّ عبقريّة زياد تجلّت في مقطوعات وأغانٍ وألحان نظمَها.
عبقريتُه، الأهمّ، تجلّت في تنويطه للوعيِ الانسانيّ والحقيقة، وفي تنويطه لكونِ
النضال فينا قصيدةً ليسَ إلّا، والحرّيةُ أغنيةً والثقافةُ مطيّةً.
فاليوم، وهوَ يشهَد على كم وكم من كلماتٍ، فيه، عبرَ مواقعٍ لا كلمة فيها
لغزّة، ومِن دموعٍ تُذرَف من عيونٍ لا دمعَ فيها على أطفالها، ومِن خطابات
تصدَح من أفواهٍ لا حرفَ فيها لشهدائها، يتأكّد له إصرارنا على أن نبقى ذلك
"الشعب العنيد". ولذلك لا يبكي، المرّة هذه، ليُضحكَنا بل يضحَك،
ويُبكينا، لكونه لم يُخطئ بالرحيل.
وإنْ تختلف الآراء السياسيّة من الرجل، قرأت هذا الفجر أنّ زياد زارَ السيّد
حسن نصرالله في حياته مرّتين حيث طلبَ إليه، في المرّة الثانية، أن يقيم معَه حيث
هوَ يُقيم، أن يحيا بجانبه حتّى الرحيل.
يقيني أنّه حاولَ، بذلك، أن يتخلّصَ من معاناته معنا ويلجأ إلى حيث الجدّية
والنضال المُعاش حتّى الاستشهاد، أكانَ من أجل غزّة أو أيّة كانت القضيّة. ولمّا
رُفِض طلبُه حرصًا عليه، لجأ زياد، المرّة هذه، إلى إلهٍ، بدمِه، نوَّط حبَّ
المظلومين ورَسم الفداءَ عن الكلّ. فخَلُصَ بهذا اللجوء من كلّ معاناة.